أفرط لبنان في الاستدانة الخارجية، وتقدر هذه الديون بحوالي 90 مليار دولار، حيث يحتل البلد مرتبة ثالث أكثر البلدان مديونية في العالم.
وكأن لبنان كان بحاجة إلى جانب كل ما يعانيه من أزمات إلى ما حدث من انفجار مروع هز العاصمة بيروت يوم الثلاثاء الماضي. ولكن يبدو واضحا حتى الآن أن أسباب الانفجار هي نفسها جذر كافة الأزمات اللبنانية وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية، وبهذه الأسباب أعني الفساد والإهمال والمحسوبية وسوء الإدارة.
أزمة اقتصادية مستحكمة
أعلن الانهيار الاقتصادي عن نفسه وتبين فشل النموذج السياسي اللبناني مع تفجر الاحتجاجات الجماهيرية في أكتوبر الماضي ضد عقود من الفساد وسوء الإدارة من قبل النخبة الحاكمة. وكانت بدايات ظهور الانهيار جلية للعيان، قد كشف عنها إغلاق البنوك لعدة أسابيع ثم قرار البنوك بالحد من سحب العملاء من ودائعهم، وهو ما ضاعف من الاحتجاجات الجماهيرية التي تفجرت في كافة أرجاء لبنان. وكان السبب الأكثر وضوحا وراء الانهيار الاقتصادي هو حدوث نقص فادح في الدولار الذي ترتبط به العملة اللبنانية. وحيث أن صادرات لبنان محدودة فقد كان البلد يعتمد بشكل أساسي على الودائع الكبيرة من المستثمرين الكبار وخاصة من تحويلات اللبنانيين في الخارج إلى البنوك اللبنانية، وكان البنك المركزي بحاجة لهذه الأموال للحفاظ على الربط بين الليرة والدولار. ويقدر أن نحو 75% من إجمالي الودائع في البنوك اللبنانية كانت ودائع دولارية.
ومن أجل المحافظة على استمرار تدفق هذه التحويلات الدولارية كانت البنوك تعرض أسعار فائدة مرتفعة للودائع الكبيرة، حيث كان يمكن تغطية عائدات هذه الودائع عن طريق اجتذاب تدفقات جديدة من التحويلات بأسعار فائدة أعلى. وقد توقفت هذه الآلية عن العمل العام الماضي حينما بدأ المودعون الجدد بالشك في أن هذه السياسة يمكن الاستمرار فيها بنفس الطريقة، و من ثم توقف تدفق التحويلات. وهكذا فسرعان ما ظهر أن كمية الدولارات الحقيقية لدى البنوك تقل بكثير عن الدولارات التي كان مطلوبا سدادها كفوائد على الودائع السابقة.
إلى جانب ذلك فقد أفرط لبنان في الاستدانة الخارجية، و تقدر هذه الديون بحوالي 90 مليار دولار، حيث يحتل البلد مرتبة ثالث أكثر البلدان مديونية في العالم من حيث نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي.
وكان من الطبيعي مع النقص في الدولارات، وعدم قدرة البنك المركزي على تغطية الاحتياجات أن يأخذ سعر صرف الليرة اللبنانية في التدهور بسرعة شهرا بعد آخر، ويقدر أن الليرة فقدت نحو 80% من قيمتها منذ شهر أكتوبر الماضي، منها نحو 60% خلال شهر يونيو الماضي وحده. وقد ألقى ذلك بالبلاد في دوامة التضخم المفرط. إذ يعتمد لبنان على الخارج في استيراد أكثر من 80% من احتياجاته الاستهلاكية، وخاصة من الغذاء، وقد ارتفعت أسعار هذه الواردات بشدة مع انخفاض قيمة العملة اللبنانية. ويقدر أن تكلفة الطعام قد ارتفعت بمقدار 190% طبقا للأرقام الرسمية في شهر مايو، ومن المؤكد أنها ارتفعت أكثر مع المزيد من انخفاض قيمة الليرة في شهر يونيو ليسجل الدولار أكثر من 9500 ليرة بعد أن كان يبلغ 4000 ليرة فقط في السوق السوداء في شهر مايو. بل إن سلعة مثل الخبز تتحكم الدولة في سعرها تم رفع سعرها هي الأخرى بمقدار الثلث.
وقد ترتب على نقص الدولارات نظام سيئ من أسعار الصرف المتعددة. فقد ظل سعر الصرف الرسمي الذي كان قائما منذ ثلاثة عقود معمولا به عند 1507 ليرات، ولكن يستخدم هذا السعر فقط في استيراد القمح والوقود والأدوية. ويتم دعم المواد الغذائية الأساسية باستخدام سعر صرف يبلغ 3900 ليرة مقابل الدولار. ولا يستطيع من لديهم ودائع دولارية تحويل أموالهم للخارج، ويمكنهم فقط سحب مبالغ محدودة منها بالليرة عند سعر صرف يبلغ 3850 ليرة للدولار وهو ما يحمل المودعين خسائر فروق سعر الصرف عن السوق السوداء.
وإلى جانب ذلك ومع نقص الدولارات المتاحة، أعلن لبنان عجزه عن سداد ديونه الخارجية في شهر مارس الماضي. وبذلك أغلق الباب أمام إمكانية إقدام أي من المقرضين الدوليين على مده بقروض جديدة. وقد تضاعفت حدة الانهيار الاقتصادي مع الإجراءات الحكومية التي تم اتخاذها بإغلاق الأنشطة الاقتصادية لمدة سبعة أسابيع لوقف انتشار فيروس كورونا. ومع إعادة فتح القطاعات الاقتصادية فمن غير المنتظر العودة إلى نفس مستويات النشاط السابق وسيشهد الناتج المحلي الإجمالي انكماشا كبيرا هذا العام، وذلك في أعقاب انكماش بلغ 6.5% خلال العام الماضي وفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي.
آثار اجتماعية خطيرة
مع هذا الانهيار الاقتصادي كان من الطبيعي أن تشهد الأوضاع الاجتماعية تدهورا شديدا. وفي بلد اعتاد فيه السكان خاصة من الطبقة الوسطى على نمط معيشي معين فمن المؤكد أن معدلات الفقر ستأخذ في الزيادة بشكل لم يشهده لبنان من قبل. وقد اتجهت الأمور لذلك بالفعل مع بلوغ معدل البطالة نحو 35%، ومع الوضع في الاعتبار أنه حتى بالنسبة لمن استمروا في العمل فقد طالهم الإفقار نتيجة للانخفاض الكبير في القوة الشرائية للعملة اللبنانية. ويبلغ الحد الأدنى للأجور نحو 675 ألف ليرة، أي ما يعادل نحو 450 دولارا بسعر الصرف الرسمي ونحو 70 دولارا فقط بسعر الصرف في السوق السوداء.
كان البنك الدولي قد قدر في نوفمبر الماضي أن نحو ثلث اللبنانيين يعيشون تحت مستوى خط الفقر، وحذر من أن هذه النسبة يمكن أن ترتفع إلى النصف مع التدهور أكثر في الوضع الاقتصادي. ويبدو أن هذا التوقع بات مؤكدا حيث هناك تقديرات أخيرة بأن عدد السكان الذين يعيشون تحت مستوى خط الفقر قد بلغ نحو 45%. وبات من الشائع الآن حديث هيئات المجتمع المدني وخاصة من الجمعيات الخيرية عن معاناة قسم كبير من السكان من الجوع. ولا يقتصر الأمر على الفئات الفقيرة، إذ بات هناك تخوف من أن أثر الأزمة في إفقار الطبقة الوسطى قد يدفع الكثير من أبناء هذه الطبقة لموجة هجرة جديدة، وهم نفس الأشخاص الذين تعد البلد بحاجة إليهم لإعادة بناء اقتصادها.
أضف إلى ذلك أزمة ممتدة منذ فترة في لبنان وهي أزمة انقطاع الكهرباء. حيث قد يمتد هذا الانقطاع لما يراوح بين 21 إلى 22 ساعة في اليوم نتيجة لنقص الوقود اللازم لتوليد الكهرباء، مما يؤثر على نمط حياة السكان وعلى العديد من الأنشطة الإنتاجية والخدمية. وربما أخطر انعكاسات أزمة الكهرباء هي التأثير سلبا على تقديم بعض الخدمات العامة لاسيما الخدمات الصحية، حيث لا تستطيع المستشفيات ممارسة أعمالها المعتادة وخاصة إجراء العمليات الجراحية، لعدم توفر الكهرباء أو عدم توفر الوقود اللازم لتشغيل مولداتها.
لبنان لا يساعد نفسه
مع عدم الثقة في إدارة الاقتصاد اللبناني بكفاءة وشفافية أحجمت الكثير من الدول والمؤسسات عن تقديم يد العون. ويقول المقرضون الدوليون بما فيهم صندوق النقد الدولي، إنهم على استعداد للمساعدة بمجرد إظهار لبنان جديته في إنهاء الفساد وإعادة هيكلة الاقتصاد. ويقف في نفس الموقف المانحون الدوليون الذين تعهدوا العام الماضي بتقديم 11 مليار دولار شريطة الالتزام بإجراء إصلاحات اقتصادية ضرورية.
وكان لبنان قد لجأ لصندوق النقد الدولي لتقديم يد المساعدة للتغلب على أزمته وإعادة ترتيب أوضاعه المالية والاقتصادية واستعادة الثقة طالبا برنامجا يبلغ حجمه 10 مليارات دولار. وقد تعثرت المحادثات بسبب الخلاف بين المصرفيين والسياسيين اللبنانيين حول مقدار الخسائر في النظام المصرفي ومن الذي عليه تحملها. وقد استقال مسؤولان كبيران بوزارة المالية كانا يشاركان في المفاوضات مع الصندوق مع حدوث هذا الانقسام. وهو ما يعني أنه إلى جانب كافة الأزمات فإن عدم توفر إرادة سياسية موحدة نتيجة لتشرذم النخبة السياسية والثقافية يضيف أزمة كبرى فوق كافة الأزمات التي تعيشها البلاد.
وربما كان أبلغ ما صدر للتعبير عن موقف الجهات المانحة هو ما ذكره وزير الخارجية الفرنسي عند مخاطبته المسؤولين اللبنانيين قائلا " ساعدونا لكي نساعدكم".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة