التجارب برهنت على أن الدولة التي تتمكن من امتلاك مفاتيح المستقبل، وخاصة العلمية منها، يمكنها أن تثبت وجودها.
في الطريق إلى محطة براكة للطاقة النووية وعلى سلّم الإنجازات الإماراتية المتراكمة، تبدو الكثير من الملاحظات جديرةً بالاهتمام والتمعّن، فقبل الإعلان عن تشغيله كأول مفاعل نووي عربي للطاقة السلمية كانت الإمارات قد قطعت أشواطاً واسعة على الصعد العلمية والاقتصادية والسياسية والإنسانية داخلها وفي محيطها وعلى المسرح الدولي، متمسكةً بمبادئها وقيمها وتأكيدها على التفاعل الإيجابي مع جميع المستجدات المختلفة، مستندة بذلك إلى نهجها القائم على ضرورة العمل لخلق بيئة ملائمة وحاضنة داخلية وطنية لتوجهاتها ومشاريعها، فكان الوصول إلى الفضاء ومسبار الأمل، لكن ذلك لم يتأتَّ ويصبح ممكناً إلا بعد أن وصلت إلى مرحلة راسخة من الاستقرار الداخلي وطنياً واقتصادياً وعلمياً وانتقلت إلى مصاف الدول الحاضرة في مضمار التقدم والتطور والازدهار عبر مشروع تنموي انطلق من الإنسان كجوهر للوجود وحامل لمقتضيات ومتطلبات تطوره. ولا يغيب مشروع خمسين الإمارات الاستراتيجي عن الأذهان، وهو الذي حمل بعدين جوهريين :أولهما الاستناد إلى إرث من الطاقات والسياسات كانت بمنزلة المخزون المتراكم من العبر والمواعظ التي رسمت طريق الولوج إلى الغد، والبعد الآخر الثقة العالية بالتخطيط المبرمج المستند إلى رؤية موضوعية منهجية متزنة لما تحوزه من إمكانات وقدرات تؤهلها لخوض غمار الغد المنشود بجدارة واقتدار .
التنمية الشاملة تقتضي بادئ ذي بدء معرفةً وإلماماً بحجم وطبيعة مقومات عناصرها ومكوناتها، ومقاييس دقيقة لوضع كل منها في حيزها الخاص الذي يمكن أن يلبي احتياجات العملية التنموية في سياق محدد ومن ثم تحديد الأولويات في إطار المشروع التنموي الشامل، وهذا ما حصل في دولة الإمارات العربية المتحدة وهي تحثّ خطاها بهدف بلوغ غاياتها إلى قمم التطور والتقدم بمعاييره العلمية والتقنية والتكنولوجية والحضارية .
لم يأت مشروع الطاقة النووية السلمية في الإمارات من فراغ، ولم يكن وليد الساعة، بل كان مشروعاً مأمولاً وفكرةً راودت منذ سنوات خلت قادة الإمارات وظلت حاضرةً وماثلةً تنتظر إنضاج الظروف واستكمال مقومات الانطلاق، فالعقول المدبرة والراعية للعملية التنموية تدرك أهمية تتويج ما راكمته من تحولات وإنجازات من خلال رفد وتحصين ما تم تحقيقه بعوامل الضمان والاستمرارية، وتكريس الصيغ العلمية كحواضن وبنى أساسية في مسيرة التنمية المستمرة على الصعد كافة، وعدم الركون إلى منطق الاستثمار في الثروات الطبيعية التي تكتنزها فحسب، رغم ما تذخر به البلاد من تنوع ووفرة هائلة في هذا القطاع؛ إنه الاستثمار من أجل الإنسان، استثمارٌ في الطاقة النووية السلمية كأول مشروع من نوعه في العالم العربي، ليكون باكورة الجهود الرامية لتأمين متطلبات البلاد والعباد من عوامل الطاقة بجميع صنوفها وما يرتبط بها من فرص متاحة لتطوير القطاعات الطبية والعلمية والتقنية .
التجارب برهنت على أن الدولة التي تتمكن من امتلاك مفاتيح المستقبل، وخاصة العلمية منها، يمكنها أن تثبت وجودها في مختلف المحافل الإقليمية والدولية كدولة مؤثرة في صيانة السلم والأمن الدوليين، نظراً لما حازته من إمكانات وكوادر بشرية تسلحت بالعلم والمعرفة، ووظفت مهاراتها في خدمة الإنسانية عموماً، فعملية التنمية بمجملها يكون الإنسانُ محورها، ونجاحُه في الانتقال من واقع محدود الآفاق إلى فضاءات رحبة واسعة تدفعه نحو المزيد من البحث والإبداع كما هو الحال في مسيرة الإنسان الإماراتي؛ فالحديث عن الرفاه والازدهار الاقتصادي والاجتماعي كان على الدوام مرهوناً بقدرة وحكمة القيادة الإماراتية على تلمس خطوط المستقبل وتوفير مستلزمات البحث والتمكين لمواطنيها، وإنجاز الخطط المدروسة التي تشكل حاملاً أساسياً لمجمل العملية التنموية وما يتفرع عنها من مسالك تقود إلى فتوحات علمية إضافية تعزز موقعَ الدولة ودورَها وتأثيرَها وحضورَها عبر أوسع أبواب التفرد والتميز الإنساني والعلمي.
مجمع براكة النووي يضع الإمارات على أعتاب حقبة علمية مليئة بالتحديات والفرص في آن معاً، ولطالما تمكنت الدولة من تطويع تحديات سابقة وأحالتها إلى فرص على أكثر من صعيد، فإن الآفاق التي يرسمها مشروع براكة للطاقة النووية السلمية الرائد لن تقتصر عوائده وفوائده على الإمارات وحدها بل ستعمُّ جميع ديار العرب والأصدقاء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة