الواقع الحالي يشير إلى أن حزب الله بات عقبة حقيقية أمام أي تحول حقيقي في الدولة اللبنانية.
تتوالى المظاهرات في أكثر من عاصمة عربية، ولعل آخرها لبنان الذي يتمتع بخصوصية فردية في المنطقة بأكملها، وظل بمنأى عن الصراعات الجارية في الإقليم بعد توالي سقوط الأنظمة العربية تباعاً لاعتبارات تتعلق بالبنية السياسية والاجتماعية للدولة اللبنانية من جانب، وما تم التعامل به منذ اتفاق الطائف، الذي كرس نظام المحاصصة بعد الحرب الأهلية، وإلى الوقت الراهن من جانب آخر، وهو نظام ظل محل تحفظات سياسية عديدة من بعض القوى السياسية الداخلية، ومع ذلك ظل العمل به فيما عرف بالرئاسات الثلاث، التي كرست وضعاً سياسياً غريباً في لبنان، الذي اعتبر نموذجاً للتوافقات السياسية.
الواقع الحالي يشير إلى أن حزب الله بات عقبة حقيقية أمام أي تحول حقيقي في الدولة اللبنانية، إذ من الواضح أن الحزب استغل أزمة فرض عقوبات أمريكية عليه للتعبئة الداخلية.
وقد كشفت المظاهرات الراهنة، التي تعد جوهر مطالبها ليست اقتصادية فقط، وإنما سياسية من الطراز الأول، عن ضرورة إعادة النظر في مجمل المشهد الراهن، الذي يحتاج إلى اتفاق جديد يتجاوز عثرات اتفاقية الطائف بعد كل هذه السنوات الطويلة والممتدة.
فالحكومة الراهنة عجزت، لاعتبارات عديدة، عن اتخاذ الخطوات المطلوبة لإنقاذ الوضع الاقتصادي المالي المعيشي المتفاقم، أضف إلى ذلك مجموعة الأزمات المعيشية التي شهدها لبنان مؤخراً، حيث يعاني من نقص في تأمين الخدمات الرئيسية، وترهل بنيته التحتية واقتراب الدين العام اليوم لأكثر من 86 مليار دولار، وفي ظل الشكوى من ارتفاع تكاليف المعيشة، وخطط فرض رسوم جديدة تزامن ذلك مع ما أعلنه وزير المال علي حسن خليل، عن إقرار موازنة نهائية لا تتضمن أي ضرائب أو رسوم إضافية، وهو ما قد يساعد لبنان على الحصول على مليارات الدولارات التي تعهد بها المانحون الدوليون، شريطة تطبيق إصلاحات طال انتظارها للقضاء على الهدر في الإنفاق وعلى الفساد.
وفي هذا السياق كان قرار تكتل الجمهورية القوية الطلب من وزرائه التقدم باستقالتهم من الحكومة، مما فتح الباب على مصراعيه للتغيير القادم في حال انفراط عقد المشهد السياسي وتمدد أعمال المظاهرات في الفترة المقبلة، وهو أمر يشير إلى أن الأوضاع السياسية لن تستقر بصورة كاملة، بل قد تندفع في اتجاه خيارات غير محسوبة، خاصة أن سمير جعجع حليف رئيس الحكومة سعد الحريري، قد دعا الأخير إلى تقديم استقالته، وفي إطار اتهام النخبة السياسية التي يحملونها المتظاهرون مسؤولية ترسخ المحسوبية ودفع الاقتصاد صوب الهاوية.
وفي المقابل أعلن الأمين العام لحزب الله، أن الحزب لا يؤيد استقالة الحكومة، وأن لبنان أمامه وقت ضيق لحل الأزمة الاقتصادية، وأنه يدعم الحكومة الحالية ولكن بروح جديدة ومنهجية جديدة، وأن حدوث الاحتجاجات تظهر أن الطريق للخروج من هذه الأزمة ليس بفرض ضرائب ورسوم جديدة على الفقراء وذوي الدخل المحدود، في إشارة واضحة إلى محاولته التنصل من الالتزامات التي قدمها حزبه للحكومة وعبر نوابه في البرلمان بشأن إجراءات التقشف.
وبالتالي فإنه من الواضح وجود انقسام بين فريقين داخل الحكومة، تتباين وجهات نظرهما حول إجراء الإصلاحات من جهة، وملف العلاقة مع سوريا من جهة ثانية، حيث تشكل العلاقة مع سوريا بنداً خلافياً داخل الحكومة، مع إصرار التيار الوطني الحر برئاسة وزير الخارجية جبران باسيل وحزب الله على الانفتاح على دمشق ومعارضة الحريري وفرقاء آخرين لذلك، كما لا تخفي ممارسات حزب الله مدى التململ الذي وصل إلى ظهيره الشعبي، فقد تعامل حزب الله مع الانتخابات النيابية الماضية على أنها مصيرية، وحرص على تعزيز موقعه على الخريطة السياسية داخل البرلمان، وكفلت له النتائج التي حققها وحلفاؤه في ذلك الاستحقاق موقعاً متقدماً في مجلس الوزراء.
والواقع الحالي يشير إلى أن حزب الله بات عقبة حقيقية أمام أي تحول حقيقي في الدولة اللبنانية، إذ من الواضح أن الحزب استغل أزمة فرض عقوبات أمريكية عليه للتعبئة الداخلية في وقت بدأ المجتمع الشيعي اللبناني يطرح تساؤلات عن الجدوى من تدخل الحزب عسكرياً في سوريا، وتزامن ذلك مع تبادل القوى السياسية الاتهامات بالمسؤولية عن تدهور الوضع الراهن والمرشح للتزايد في ظل استمرار المطالبة بعزل جميع الطبقة السياسية التي يتهمونها بالفساد والمحاصصة، فماذا سيفعل سعد الحريري، خاصة أن الورقة الاقتصادية التي أقرها مجلس الوزراء قد تؤسس مرحلة جديدة أو أنها تفتح الباب أمام مزيد من الخلافات، وستظل الرهانات قائمة على إمكانية تفكيك القوى المشاركة في الانتفاضة، وإن كان ذلك لن يتم بصورة مباشرة، وسيحتاج إلى اتباع سياسة النفس الطويل مع عدم استبعاد إحداث تعديل في الحكومة واستبدال بعض الوجوه الراهنة، ومن ثم فإن استقرار الأوضاع في لبنان لن يكون سهلاً في الفترة المقبلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة