تاريخ حاكم مصرف لبنان أمام منصة العقوبات الأمريكية.. إرث من رماد
لم يتخيل الحاكم الخامس لمصرف لبنان المركزي أن علم الهندسة المالية قد يقوده إلى منصة العقوبات الأمريكية.
إنه رياض سلامة حاكم مصرف لبنان الحالي وحارس خزانة اللبنانيين الكبرى، هو الرجل الذي خرج في خضم أزمة طاحنة ليطمئن أهل لبنان أن عملتهم بخير حتى انهارت وسقطت في بئر رخيص أمام كل عملات الدنيا.
وفي عرف المال والأعمال فإن شخص حاكم المصرف المركزي في أي بلد لا علاقة له بالتيارات المتصارعة حفاظا على أموال البلاد والعباد، فما الذي أوصل رياض سلامة إلى منصة العقوبات الأمريكية؟.. الإجابة في التقرير التالي..
رياح عاتية
منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية في لبنان في أكتوبر عام 2019 وبدء انهيار الليرة ظهر اسم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى الواجهة مع تحميله مسؤولية ما آلت إليه الأمور المالية والاقتصادية.
- حاكم مصرف لبنان يكشف مصير الذهب: لسنا بلدا مفلسا وعملة رقمية قريبا
- حاكم مصرف لبنان يكشف حقيقة علاقته بحزب الله ويسلم الحسابات للتدقيق الجنائي
ورفعت مطالبات باستقالته ومحاسبته فيما اعتبر البعض أن المسؤولية لا تنحصر به انطلاقا من أن القرارات في لبنان تتم بغطاء سياسي وموافقة جميع الفرقاء، لتعود وتنتشر معلومات يوم أمس عن توجه أمريكي لفرض عقوبات عليه بتهمة اختلاس أموال.
ورغم أن رئيس الجمهورية ميشال عون دعم التمديد لولاية جديدة لسلامة عام 2017، كان هو والتيار الوطني الحر، الذي يرأسه صهره النائب جبران باسيل وحزب الله من أبرز المعارضين له بعد انطلاق الانتفاضة محملين إياه المسؤولية.
أكثر من ربع قرن
مع العلم أن سلامة المولود في 17 يوليو 1950 والذي يحمل إجازة في الاقتصاد، عين حاكم لمصرف لبنان عام 1993 في المنصب المخصص للطائفة المارونية في لبنان ليمدد له عام 1999 و 2005 و 2011 و 2017، وهو الحاكم الخامس لمصرف لبنان منذ تأسيسه عام 1946، وكان من بين الأسماء المطروحة لتولي رئاسة الجمهورية للرئيس لميشال سليمان الذي انتهت ولايته في مايو 2014.
ويعتبر سلامة من أبرز حكام المصارف المركزية في العالم وهو حصل على أوسمة وجوائز عالمية عدة خلال مسيرته منها حصوله أربع مرات على درجة "A" من بين 94 حاكم مصرف مركزي في العالم كان آخرها في تقرير عام 2019 لمجلة "جلوبال فاينانس من أهم المجلات الاقتصادية في العالم.
ورغم المعلومات التي كانت تشير وتحذر قبل العام 2019 من أن الوضع الاقتصادي في لبنان حذر وقد يتجه إلى مرحلة خطرة كان سلامة يصر على طمأنة اللبنانيين ونفي هذا الأمر وعرف بجملته المشهورة "الليرة بخير"، ليعود بعدها اللبنانيون ويصطدمون بالواقع المرير بعدما خسروا خلال أيام ودائعهم ووضعت المصارف إجراءات على سحب أموالهم بالدولار الأمريكي وبروز أزمة شح السيولة.
سر البقاء
هناك قناعة في لبنان لدى الجميع بأن بقاء سلامة في منصبه هو نتيجة توافق كل القوى السياسية عليه، كما يحصل في كل الوظائف ولا سيما العليا في لبنان، ويرى فيه كثيرون أنه شكل عامل استقرار لليرة اللبنانية طوال السنوات التي تولى فيه منصبه بعدما حدد سعر صرف الدولار عند الـ 1500 ليرة بناء على ما كان يقول أنه وجود "احتياطات مهمة بالدولار الأمريكي" لدى المصرف المركزي، لكن هناك من يحمله مسؤولية "الهندسة" المالية الخاطئة والاستدانة الخاطئة من الخارج وهي التي أوصلت لبنان إلى هذه المرحلة.
منذ بدء الولايات المتحدة والمجتمع الدولي فرض عقوبات على حزب الله واتخاذه قرار تطبيق القانون الأمريكي لمكافحة الإرهاب وتبييض الأموال ساءت علاقته مع حزب الله وحلفائه وعلى رأسهم التيار الوطني الحر الذين بدءوا يصوبون الحملات عليه، علما أن المعلومات تشير إلى أن التيار قبل بالتمديد له عام 2017 لاستفادته عبر مصارف تابعة له من صفقة هندسة مالية.
بعد استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري في أكتوبر 2019 وتشكيل حكومة حسان دياب وما رافقها من أزمات متراكمة في لبنان برز صدام بين سلامة ودياب الذي اتهم الحاكم بعدم اطلاع الحكومة على قراراته وعدم التنسيق معها وذلك في موازاة النقمة الشعبية المتزايدة ضد سلامة والمطالبة بإقالته ليستمر الوضع على ما هو عليه حتى اليوم.
رفع السرية المصرفية
كان لموقف سلامة من التدقيق الجنائي المالي في المصرف المركزي مستندا على قانون السرية المصرفية، دور في انسحاب "شركة ألفاريز أند مارسيل" من مهمتها في لبنان رغم العقد الموقع بينهما، مؤكدة أن "المركزي" لم يقدم لها المستندات المطلوبة، وهو ما أدى إلى موجة غضب ضد سلامة من قبل المعارضين له، ليعود بعدها البرلمان اللبناني ويقر قانون رفع السرية المصرفية عن المصرف المركزي والوزارات والإدارات لمدة سنة تمهيدا للتدقيق الجنائي الذي لا يزال يواجه عقبات يحمّل جزء منها إلى سلامة الذي تشير المعلومات إلى أن لم يسلم كل ما هو مطلوب منه، من دون أن تحسم عودة الشركة نفسها لتولي المهمة أو أن لبنان سيذهب إلى التعاون مع شركة أخرى.
ويتهم محللون ومراقبون زعماء سياسيين ومسؤولين بينهم سلامة بتحويل مبالغ ضخمة من حساباتهم إلى الخارج، وهذا الأمر ما ينفيه الجميع، لتعود وتعلن سويسرا الشهر الماضي أن النيابة العامة الفيدرالية لديها أنها طلبت مساعدة قضائية من السلطات اللبنانية بشأن تحقيق حول غسل أموال على ارتباط باختلاس أموال محتمل من مصرف لبنان، متحدثة تحويلات بقيمة 400 مليون دولار، تخصّ سلامة وشقيقه ومساعدته ومؤسسات تابعة للمصرف المركزي، بينها شركة طيران الشرق الأوسط وكازينو لبنان، وهي المعلومات التي نفاها سلامة مبديا استعداده للذهاب إلى سويسرا للتحقيق معه.
ونقلت "وكالة الصحافة الفرنسية" عن مصدر قضائي قوله إن سلامة أبلغ القضاء اللبناني أن "مجمل التحويلات التي أجراها لا تتعدى 240 مليون دولار، وبدأت منذ العام 2002 لتمويل شركة أسسها مع شقيقه رجا في سويسرا قبل 20 عاماً، وتمت من حساباتهما الخاصة".
انتحار الليرة
ويوم الثلاثاء الماضي سجل ارتفاع في سعر صرف الدولار الى مستوى غير مسبوق حيث تخطى العشرة آلاف ليرة، وأدى إلى احتجاجات لبنانية واسعة، فيما وجه رئيس الجمهورية ميشال عون أصابع الاتهام، وان بشكل غير مباشر إلى سلامة في موازاة اتهامات للمصارف للتلاعب بسعر الصرف في السوق السوداء بهدف السعي لتنفيذ تعميم مصرف لبنان الذي دعا المصارف إلى زيادة رأس مالها بنسبة 20% قبل نهاية فبراير .
وفي لقاء معه، طالب عون حاكم المركزي خلال استقباله بمعرفة الأسباب التي أدّت إلى ارتفاع سعر الدولار إلى هذه المستويات لاسيما في الأيام القليلة الماضية، وإطلاع اللبنانيين تأمينا للشفافيّة على نتائج التحقيق الذي تجريه هيئة التحقيق الخاصة.
من جهتها، نفت جمعية المصارف اتهامها بالتلاعب بسعر الصرف، واعتبرت أن "الأسباب الكامنة وراء هي الضبابيّة السياسية في البلاد في ظلّ التخبط السياسي والصراعات والمناكفات في غياب أي جهد جدي وحقيقي لتأليف الحكومة العتيدة بعد مرور 7 أشهر من استقالة الحكومة السابقة"، إضافة إلى "الاستيراد غير المدعوم من مصرف لبنان والذي تقدّر قيمته بما لا يقل عن 5 مليارات دولار سنوياً بحيث يلجأ المستوردون إلى السوق السوداء لتأمين الدولارات النقدية المطلوبة".
أكبر عجز
كذلك "شح الدولار في السوق المحلية في سياق انخفاض حركة الأموال الوافدة بشكل ملحوظ، ما أدى إلى عجز في ميزان المدفوعات بمقدار 10,5 مليار دولار في العام 2020، وهو أكبر عجز عرفه لبنان"، ومن بين الأسباب أيضا بحسب الجمعية "التداول الناشط بصورة غير شرعية للدولار عبر المنصّات الإلكترونيّة".
لينتهي المطاف بسلامة بأن الإدارة الأمريكية تدرس فرض عقوبات على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، مشيرة إلى أنها مرتبطة بتحقيق حول اختلاس المال العام فيما تتركز النقاشات على إمكانية تجميد أرصدة رياض سلامة في الخارج".