عندما ترحل عصفورة أيلول.. وداعًا إميلي نصر الله
رحلة مليئة بالإبداع والتحدي خاضتها أم الرواية اللبنانية الراحلة إميلي نصر الله
عندما يحلّ سبتمبر / أيلول، تاسع أشهر السنة، تمر فوق قريتها أسرابٌ كثيرة من طيور كبيرة الحجم، قوية الجناحين، يعرفها السكان، بطيور أيلول، ويتلفت الناس نحو الفضاء الموشّح ببواكير الغمام، يراقبون الطيور، وفي صدورهم غصّات انفعال. إن هذه الطيور المهاجرة تسجّل نقطة جديدة في دائرة الزمن".
أبت الراحلة إميلي نصر الله أن تمرّ على هذه الحياة دون أن تسجل نقطة جديدة في دائرة الزمن، خلقت من تفاصيل صغيرة ومشاعر فُرضت عليها، كتبًا وعالمًا رافق كل الأجيال. في جميع مقابلاتها كانت تكرر القصص نفسها، على الرغم من بساطتها، إلا أنها شكلت محورا في حياتها.
سرقت العلم في الصيف تحت الشمس وفي الشتاء تحت المطر. تختبئ تحت نافذة المدرسة تستمع إلى المعلمة وتعود إلى منزلها.
"أبي الذي لم يكن يقرأ ويكتب كان فخوًرا بي، يطلب مني الوقوف على الطاولة وترديد ما حفظته اليوم. في يوم من الأيام أشفقت الوالدة علي أمسكتني بيدي وقالت للمعلمة: اقبلي بها ولو زرابة" .
قبلت المعلمة دخولها الصف بشرط واحد، أنه حين يأتي المفتش عليها أن تختفي وإلا ستعرّضها للمشاكل، فهي لم تكن تبلغ بعد السادسة من عمرها، العمر الذي يخولها الدخول إلى المدرسة. بابتسامة تروي إميلي القصة، وتبتسم، تعود من امرأة في عقدها الثامن إلى أوائل سنين حياتها٫ هكذا بدأت رحلتها مع العلم والأدب، رحلة اختارت يوم ١٤ مارس ٢٠١٨ نهاية لها.
لم تدع يوما أنها الأفضل في اللغة، لكنها كان متأكدة أن بساطة كلماتها تطال قلب كل من يقرأها. لم تخجل من طلب المساعدة، ولم تنس كل من أمسك بيدها خلال مشوارها. المؤثر الأول كان خالها أيوب، يحملها بين يديه يسألها أسئلة ويطلب منها أن تصف جبل الشيخ والقرية، أما الخال توفيق، وبعد أن بعثت له برسالة إلى أميركا كتبت فيها:"إني أحب أن أكمل علمي"، لم يتردد لثانية واحدة، فانتقلت إميلي من قرية الكفير جنوبي لبنان إلى منطقة الشويفات لتكمل دراستها الثانوية.
في المكتبة التي كانت مسؤولة عنها في معهد الشويفات، خبأت إميلي كتب جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة تحت إبطها، لتأخذها إلى غرفتها وتقرأها، وبعد سنوات كتب نعيمة عنها: "إنها معرض فنّي للقرية اللبنانيّة في شتّى مظاهره، وإنها كسب للقصة في لبنان".
عادت إلى القرية بعد تخرجها، وارتبطت بشاب، توفي خلال فترة الخطوبة، ما دفعها للعودة إلى الشويفات والعمل كمدرسة، هربا من الشفقة التي انهمرت عليها من أهالي القرية.
في روايتها الأولى "طيور أيلول" عكست إميلي حياة القرية وعبرت بجرأة عن رفضها للأعراف والتقاليد، كل من يقرأ هذه الرواية يجد زاوية تناسب أفكاره ومشاعره٬ إلا أن إميلي كتبتها لتعبر عن حرقة عاشتها بسبب هجرة إخوانها إلى كندا، هي التي كانت تردد: "كتبته بالعاطفة وبوعي لهجرة مجتمع بكامله، كتبته بالقلم وليس بالآلة، وحين كنت أعود لأقرأ ما كتبت كنت أرى دموعي على الكلمات".
تسبقها العفوية، فتظهر جريئة. إلا أنها وكما وصفت نفسها في لقائها الأول برفيق دربها وزوجها فيليب "ابنة ضيعة"، ففي موعدهما الأول، اختبأت وراء الأعمدة في قلعة بعلبك، خوفا من أن يتعرف عليها شخص من قريتها، في تلك الليلة التي افتُتحت فيها مهرجانات بعلبك، لم تشاهد شيئا من مسرحية "هاملت" ولم تتوجه بكلمة واحدة لفيليب. هي نفسها، رفضت في موعدهما الثاني أن يدفع هو ثمن "كباية الشاي" التي احتستها.
بين خوف فتاة من أن يعلم والدها المحافظ بخروجها مع شاب، وبين جرأة من طالبت أن تدفع هي عن نفسها، يظهر جوهر إميلي نصرالله، صوت القرية في المدن. لم تخضع ولم تحارب، كانت نفسها فقط، كتبت عن المرأة ودافعت عن حقوقها في "صوت المرأة"، عن الهجرة في "طيور أيلول" وعن الحرب في "الإقلاع عكس الزمن"
عانت من الناحية المادية، نامت في المدرسة التي عملت بها، ساعدتها الحياة لأنها طلبت، وأحاطت نفسها بأناس أبصروا قدراتها، ولم تخجل يومًا من أن تذكر تأثيرهم عليها فتقول عن فيليب: "هذا الرجل في حياتي كان له الفضل الأول لمتابعة أعمالي في الكتابة. كان يتحداني".
كانت تُدرك جيدا أن لطفولتها التأثير الأكبر على خياراتها اللاحقة، كاتبة وامرأة عجنها مزيج صفات محددة تمتد من القرية إلى المدينة، ومن المدينة إلى القرية، أخذت من كل الأمكنة ما ناسبها وصنعت نفسها، والأهم من كل هذا أدركت جيدا أن الكبار لا يفهمون منطق الصغار، فكانت هي الجسر في نصوصها.
نشطت في مجال المرأة إلى جانب كتابة الرواية والقصص القصيرة، وصنفت روايتها "طيور أيلول" ضمن أفضل مئة رواية عربية، كتبت للصغار كما الكبار، حملت أحلامهم في أعمالها ورفضت الهجرة والاغتراب.
هاجرت إميلي نصرالله هذه الدنيا، مع طيورها وكتبها، الأديبة التي كرَمها رئيس الجمهورية اللبنانية تقديرًا لعطاءاتها قبل رحيلها. عن عمر يناهز ٨٧ عامًا رحلت أيقونة الأدب المدرسي اللبناني. إنهم كبار لبنان ينطفئون على أمل ألا نُترك في العتمة .
ولدت إميلي نصراللّه في بلدة كوكبا، جنوبي لبنان لكنها نشأت في بلدة والدتها الكفير، درست في كلية بيروت الجامعية، ثم الجامعة الأميركية حيث تخرّجت بشهادة بكالوريوس في العام 1958.
عملت كروائية، صحافية، كاتبة، معلمة، محاضرة، وناشطة في حقوقِ المرأة.
حازت روايتها الأولى "طيور أيلول" على 3 جوائز أدبية وترجمت العديد من رواياتها إلى الإنجليزية والفرنسية.
أعمالها الروائية: طيور أيلول، شجرة الدفلى، الرهينة، تلك الذكريات، الجمر الغافي.
القصص القصيرة: روت لي الأيام، الينبوع، المرأة في 17 قصة، خبزنا اليومي، لحظات الرحيل، الليالي الغجرية، الطاحونة الضائعة، أوراق منسية، أسود وأبيض، رياض جنوبية.
قصص الأطفال: الباهرة، شادي الصغير، جزيرة الوهم، على بساط الثلج، أندا الخوتا،
أين تذهب أندا؟ (قصة)، نساء رائدات من الشرق والغرب (6 أجزاء)، في البال.
نالت عام 2018 وسام الأرز اللبناني من رتبة كومندور تقديرًا لعطاءاتها الأدبية.
ونالت في العام 2017 وسام معهد "جوته" الفخري الرسمي باسم جمهورية ألمانيا الاتحادية.
أما رواية "يوميات هر" فنالت عليها جائزة مؤسّسة IBBY العالميّة لكتب الأولاد.