الدولة كائن حي، يحمل جينات مَن جاء به إلى الوجود، ويحمل فصيلة دمه، ورموزه الوراثية أيضاً.
وإذا حدث وتمت عملية نقل دم من فصيلة أخرى، أو تم نقل خلايا جذعية من جينات غير جينات ذلك الكائن الحي، الذي هو الدولة، يرتبك جسده، ويفقد توازنه، وتبدأ خلاياه البيضاء تحارب باقي الجسد، وينفجر فيه الصراع الذي يتحول سريعا إلى سرطان.
الدولة اللبنانية جيناتها ورمزها الوراثي هو المسيحية العربية الحامية للتراث العربي الإسلامي، خرجت من جسد سوريا الكبرى لتمكين المسيحيين العروبيين من إطلاق طاقاتهم الإبداعية، وتفجير إمكانياتهم الخلاقة، فرفدوا الثقافة والسياسة والفنون والاقتصاد في العالم العربي بطاقات بشرية هائلة، كانت المخزون الإبداعي للعرب.
وظلت لبنان وطناً جوهره ورمانة ميزانه هم المسيحيون العرب، إلى أن تفجرت الحرب الأهلية في عام 1975، لأسباب ليس هنا المكان المناسب للحديث عنها، ثم كانت نهاية الحرب الأهلية هي في ذاتها نهاية الوجود التاريخي للبنان، وبداية وجود جديد من خلال تغيير الرمز الوراثي للجسد اللبناني، ومن خلال نقل دماء جديدة له من غير فصيلته، وكذلك حقنه بخلايا جذعية من جينات غير جيناته لعلها تطيل عمره، وتعالج أمراضه.
وهنا كانت بداية السرطان السياسي في لبنان، الذي لم يصلح في علاجه إلى اليوم كل تلك الأزمات، والحروب، والاقتتال، والتفجيرات، والاغتيالات.
واليوم بعد عملية انتخابات هي الأولى من نوعها، منذ نهاية الحرب الأهلية في 1990، التي ثار فيها الشارع على الإقطاع السياسي، الممسك برقاب لبنان واللبنانيين، وتمت عملية نفض كبيرة للكثير من الركام، الذي جثم على أنفاس الشعب لثلاثة عقود، حتى الذين لم يستطيعوا التغيير من المكون الشيعي كانت مشاركتهم في الانتخابات هي الأضعف والأقل، وهذا في حد ذاته دليل قاطع على الرفض للطبقة السياسية الشيعية المسيطرة، وثورة على توجهاتها واختياراتها السياسية.
ولكن كل ذلك ليس هو المشكلة، فقد أفرزت الانتخابات نتائج تحير عقل كل من يحاول قراءتها بعمق، فقد حصل المكون الشيعي بجناحيه، "حزب الله" و"حركة أمل"، على 30 مقعدا فقط، مناصفة بينهما، لكل 15 مقعدا، من 128 مقعدا يتشكل منها مجلس النواب اللبناني.
ثم بعد ذلك ترتفع الأصوات مهاجمة "حزب الله" و"حركة أمل"، متهمة كليهما باختطاف لبنان والهيمنة على لبنان وخنق لبنان، والحقيقة، التي يدركها أي مبتدئ في علم السياسة أن المكون الشيعي هو أقلية ضئيلة الوزن في السلطة التشريعية اللبنانية لا يتعدى وزنه نسبة 23.4٪ من إجمال عدد أعضاء مجلس النواب اللبناني.
وهنا يثور السؤال: من أين تأتي قوة وهيمنة وسطوة "حزب الله" ورديفه حركة أمل؟
والجواب بمنتهى السرعة أنها تأتي من تشرذم المكون المسيحي في لبنان، وتفرق دمه بين القبائل، فبعضه مع الشيعة، وبعضه مع السنة، وبعضه لا يعرف إلى أين المسير.
المسيحيون في لبنان انتماؤهم الأول والأخير إلى لبنان، ولا يوجد في الإقليم أو من ورائه كيان سياسي آخر ينتمون إليه، أما المكون الشيعي مثلا، فقد أعلنها حسن نصر الله أنهم ينتمون إلى دولة الولي الفقيه في إيران، والسنة في لبنان يسيرون على الخط نفسه، فقد تشتت ولاؤهم ما بين سوريا وغيرها، وكان هذا بداية دخول لبنان في صراعات وأجندات لا علاقة لها بالدولة اللبنانية.
ولو أن المسيحيين في لبنان توحدوا، وكانوا كتلة واحدة لكان في الإمكان تقليل آثار تمزق لبنان بين مصالح إقليمية، وصراعات إقليمية، وأجندات دولية. ولكن للأسف ذهب بعضهم إلى طهران والآخر إلى دمشق، والثالث إلى عواصم أخرى.. وبذلك ضاع لبنان جوهرة الشرق وواحته الوارفة، التي كان يتنفس فيها الجميع الحرية والإبداع والسلام.
من يرصد السياسات المصرية طوال الفترة الملكية والناصرية يجد أن مصر كانت دائما تراهن على المسيحيين في لبنان، دون أن تتجاهل أو تهمش باقي المكونات، وكان نظام "عبد الناصر" يدمج كوادرهم في المؤسسات العربية والمصرية ويعظم دورهم، ويعول عليهم الكثير، وكان ثقل الحكم في لبنان مركزه هم المسيحيون دون افتئات على باقي المكونات ودون الانتقاص من وزنها ودورها.
ولعل مصر في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة في تاريخ لبنان تعود إليه، ولعل المسيحيين يدركون أنهم رمانة الميزان أو "رمانة القبان" كما يقولونها هم، ويتوحدون في هذا المجلس التشريعي الجديد، الذي سينطلق اليوم، ويعيدون التوازن إلى لبنان، ويحررونه من التبعية للقوى الإقليمية، ويخرجونه من فوق طاولة المفاوضات بين القوى الدولية والقوى الإقليمية، ويعود دولة لكل أبنائها بكل طوائفهم.
رحم الله أستاذي محمد أبو القاسم حاج حمد، الذي كان يقول: "الله يديم التنوع والاختلاف بين الطوائف اللبنانية، فهو السر في مناخ الحرية والإبداع في هذا البلد العظيم".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة