لبنان يحظى بنظام معقد يقوم على التوازن بين الطوائف وسط نفوذ الأحزاب التقليدية والزعماء التقليديين والمؤسسات والنقابات ومراكز القوى
من واجب قادة الثورة أو الحراك في لبنان إعادة النظر في ممارستهم ومطالبهم بعد ثلاثة أشهر من انطلاق تحركهم ووضع جدول السلبيات، وبينها العنف والإيجابيات بعد أن ألقت السلطة بقفاز التحدي في وجوههم بتشكيل الحكومة بالشكل الذي أعلن وأثار التساؤلات والشكوك، وعليهم قبول التحدي ووضع خارطة طريق لتحركهم المقبل.
فكل الثورات في العالم وفي البلاد العربية بالذات تبدأ نقية صافية شريفة ووطنية تنادي بمطالب محقة وتحمل شعارات صادقة وتنال إعجاب الأكثرية الصامتة وشرائح المجتمع، لا فرق بين غني وفقير ولا ضعيف وقوي ولا صاحب سلطة وعاطل عن العمل.
معظم الثورات تنتهي بالخيبة والفقر والدمار والشروخ في المجتمع، إضافة إلى بروز تجار الهيكل والمستفيدين على حساب دم المواطن ومعهم مجموعة من الانتهازيين والمغرضين الذين يقفزون إلى السلطة ليتصدروا الواجهة
ومع الأيام يتلاشى الزخم وتتراجع المسيرة ويضعف الحماس ويراهن جزء من السلطة على الوقت وعلى محاصرة الثورة واتباع سياسة "فرق تسد" عبر وسائل الترهيب والترغيب بين استعمال العنف والتهديد بلقمة العيش والسجن أو بإغراءات مادية وسلطوية؛ حيث كان يعرض على جزء من الثوار منصب وزاري أو وظيفة مهمة.
وهذا ما حدث في ثورة الشعب اللبناني ضد السلطة والفساد والهدر، فقد كانت البداية مشرقة، حققت إنجازات مهمة؛ أولها التركيز على الوحدة الوطنية ونبذ الطائفية البغيضة التي أعادت لبنان إلى الوراء عشرات السنين وكبحت جماح أي نهضة شاملة.
وبين مطرقة السلطة وعنفها وأساليبها التي لم تترك وسيلة إلا ومارستها، وسندان الثوار الذين ارتكبوا أخطاء متعددة في حسابات الواقع وتوسيع دائرة المطالب وعدم التفريق بين المعقول واللا معقول والممكن والمتاح، ويمكن تعداد هذه الأخطاء على سبيل المثال لا الحصر وفق الترتيب التالي:
* الاعتماد على العواطف النبيلة وتعميم الاتهامات وعدم الالتفات إلى الوقائع الدستورية والقانونية للنظام اللبناني وكل عاقل يدرك أنه مختلف عن باقي الأنظمة الفردية التي تعتمد على الشخص الحاكم.
ولبنان يحظى بنظام معقد يقوم على التوازن بين الطوائف وسط نفوذ الأحزاب التقليدية والزعماء التقليديين والمؤسسات والنقابات ومراكز القوى والزعامات الروحية، وأي تغيير أو إسقاط لهذا النظام يتطلب إجماعاً، وهذا مستحيل، كما يتطلب تعديلات دستورية يجب أن تأخذ طريقها عبر المؤسسات الرسمية مثل الرئاسة ومجلس الوزراء ومجلس النواب، مثلها مثل قانون الانتخاب الذي يجب أن يسلك طريقه عبر البرلمان، ما يعني العودة إلى نقطة الصفر.
* يفترض بالثوار أن يكونوا حماة حقوق الإنسان مهما كان الهدف، ولهذا لا حق لهم في مصادرة حقوق الآخرين مثل تعميم الاتهامات بالفساد والسرقة والهدر دون وجه حق، ولا حكم قضائيا واستحالة المضي في إطلاق شعار "كلن يعني كلن" إلا حسب الأصول القانونية، إضافة إلى ملاحقة السياسيين والاعتداء على مساكنهم وطردهم من الأماكن العامة.
وهذا ليس دفاعاً عنهم بل دعوة لاتخاذ الإجراءات القانونية ومحاسبة من تثبت عليهم التهم.
* حصلت منذ اللحظة الأولى عدة ممارسات مشينة مثل استخدام عبارات مسيئة للأخلاق وشتائم تطال العائلات والأمهات بغض النظر عن المبررات.
*لعب الإعلام دورا مسيئا ومحرضاً ومركزاً لبث شائعات والمواقف المسيئة ونقل الشتائم عبر الهواء مباشرة، ومع ترك التعليقات لكل من هب ودب، تبين أن منهم مغرضين أو مرضى نفسيين أو أصحاب غايات.
* لم يحسب الثوار حساب الشارع الآخر وإمكاناته كما لم يأخذوا بالاعتبار نفوذ حزب الله وتمسكه بمفاصل الحكم، إضافة إلى الصراعات الإقليمية والدولية التي أسهمت في تأجيج الخلافات وتنفيس زخم الثورة، كل هذه الأمور وقضايا أخرى لا بد من عرضها في مرحلة لاحقة، مع التأكيد على حقيقة مؤسفة في العالم كله، وهي أن معظم الثورات تنتهي بالخيبة والفقر والدمار والشروخ في المجتمع، إضافة إلى بروز تجار الهيكل والمستفيدين على حساب دم المواطن، ومعهم مجموعة من الانتهازيين والمغرضين الذين يقفزون إلى السلطة ليتصدروا الواجهة، وسرعان ما يتخلوا عن الشعارات ليكرسوا شرعية سرقتهم آمال الشعوب وتطلعاتهم النبيلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة