غارة إسرائيلية حولته لركام.. لبنانيون يبكون «سوق النبطية»
لن يصدق من يعرف سوق النبطية التجاري في جنوب لبنان مصيره الذي آل إليه، فمن سوق يعج بالباعة والزبائن إلى ركام وحطام في كل ركن منه.
محال استحالت أكواما من الركام تتصاعد من أنحائها أعمدة دخان، وسكان يعاينون الدمار الذي نجم عن غارة إسرائيلية استهدفت السوق، ويبكون قلب مدينتهم النابض وذكرياتهم.
بتأثر، يصف طارق عبد الأمير صدقة، لوكالة الأنباء الفرنسية، ما يشاهده من حوله "وكأنه زلزال حلّ بسوق النبطية. سوق دمر بأكمله".
ويضيف: "حتى الزاوية حيث كنا نجلس ونحتسي القهوة صباحا دمرت".
ونفّذ الطيران الحربي الإسرائيلي، وفق الوكالة الوطنية للإعلام في لبنان (الرسمية)، غارة قرابة الثامنة والربع مساء السبت استهدفت وسط السوق التجاري في مدينة النبطية، كبرى مدن الجنوب اللبناني ومركز نشاطه الاقتصادي.
وأسفرت الغارة وفق وزارة الصحة اللبنانية عن إصابة 8 أشخاص بجروح في حصيلة أولية، فيما لم يعلن الجيش الإسرائيلي طبيعة الهدف.
ويقول صدقة بينما يحمل عبوة مياه بلاستيكية ولا يقوى على حبس دموعه، "يعجز اللسان عن التعبير، لم نعد نقوى على الكلام"، مضيفا "أنا باق هنا ولن أغادر النبطية، النبطية أمّنا. إنه لأمر محزن أن تجد أرزاق الناس دمرت".
وعلى بعد أمتار منه، تشقّ ألسنة نيران طريقها بين حجارة متصدعة، وتتصاعد أعمدة دخان أسود من أنحاء عدة. وحدها شجرة خضراء يانعة بقيت صامدة بعدما تحول كل ما يحيط بها إلى ركام.
وبينما عملت جرافة على رفع حجارة جعلت التنقل شبه مستحيل في المكان المستهدف، بدت واجهات المحال مدمرة ولم تنج إلا بضع لافتات كانت مرفوعة عليها، بينها محل مجوهرات.
وتهشمت واجهة مبنى من ثلاث طبقات، وبدت جدرانه سوداء جراء الدخان، بينما تقطعت حبال كهرباء وتدلت في أماكن عدة.
وأحدثت الغارة دمارا كبيرا في سوق المدينة التجاري الذي يشكل منذ عقود مقصدا لسكان المدينة وروادها من البلدات الواقعة في محيطها. ويكتظ السوق بمحال ومؤسسات متنوعة بينها متاجر ثياب ومجوهرات وحلويات.
وتقع مدينة النبطية وهي مركز محافظة تحمل الاسم ذاته على بعد نحو 13 كيلومترا عن أقرب نقطة حدودية مع إسرائيل، وتضم مؤسسات رسمية وتجارية كبرى ومستشفيات عامة وخاصة إضافة إلى جامعات رسمية وخاصة.
وسبق لإسرائيل أن وجهت منذ بدء التصعيد مع حزب الله قبل عام ضربات محدودة طالت شققا في المدينة، من دون أن تخلف دمارا واسعا.
النبطية روحي
متكئا على عكاز، جال حلمي جابر في محيط المكان المستهدف، وعلق على خاصرته مفاتيح غرفة صغيرة مجاورة يقطن فيها تضررت بعدما دخلت المياه إليها إثر تضرر خزانات على السطح من عصف الغارة الإسرائيلية.
ويتحسّر الرجل المسنّ قائلا "كانت هذه أجمل منطقة وأفضل سوق فيها"، مضيفا "ليترأف الله بالناس ويساعدنا. نحن خائفون ودماؤنا على أيدينا ونخشى ضربات جديدة، إذ أنهم (الإسرائيليون) لا يستثنون أحدا ويريدون جعل النبطية أرضا محروقة".
ويسأل جابر الذي يسير بخطى بطيئة وخلفه دمار واسع "هل هناك من نكبات أكبر؟ أريد أن أغادر، لكن من سيأخذني الآن وأنا عاجز عن التحرك؟".
ويتابع بحرقة: "من سينظر في حالنا؟ نوابنا الذين يسافرون ويقيمون في الفنادق؟ هل من يأتي منهم لتفقدنا والسؤال عن حالنا؟".
ويتوافد تباعا إلى الموقع المستهدف، رجال يستطلعون حال السوق الذي اعتادوا ارتياده يوميا للتسوق أو رؤية أصدقائهم.
وبين هؤلاء محمود خرابزيت (69 عاما) الذي اعتاد منذ سنوات طويلة احتساء القهوة مع أصدقائه يوميا في السوق، وعلى غرار كثر، يقول إن المدينة مرت عليها حروب كثيرة واستُهدفت بالقصف، لكننا ما زلنا صامدين فيها.
ويؤكد أن استهداف إسرائيل للمدينة لن يدفعه الى مغادرتها. ويوضح: "باق هنا. هنا منزلي ومنزل أهلي ومنازل إخوتي. لا أستطيع أن أترك النبطية. النبطية روحي".
وعلى بعد أمتار، يشبّه الشيخ علي طه (63 عاما) السوق بمنزله، ويقول: "شعرت كما لو أن منزلي تعرّض للقصف. هنا ترعرعنا وتعرف الناس كلهم على بعضهم بعض"، في الشارع كما على مواقع التواصل الاجتماعي، يبكي سكان المدينة سوقهم وذكرياتهم فيه منذ نعومة أظافرهم.
في منشور على فيسبوك، عدّدت الكاتبة بادية فحص أسماء محال حفظتها مع أسماء مالكيها عن ظهر قلب في الشارع المستهدف، وختمت منشورها الذي لاقى تفاعلا واسعا، قائلة: "هذا قلبنا الذي احترق وليس مجرد مربع أسمنت".