قلعة موسى اللبنانية.. رسمة ممزقة تتحول إلى أيقونة معمارية
على الرغم من مرور السنوات فإنه لم يغِب عن بال المعماري موسى عبدالكريم سخرية الآخرين من حلمه القديم بتشييد قلعة
على ربوة عالية في منطقة الشوف جنوب لبنان، تشاهد أحجارا متراصة بعضها بجوار بعض منقوشة برسومات لأشخاص وحيوانات تحتضن بداخلها مجسمات شمعية تروي لنا حكايات عن قصة المبنى وحياة المجتمع اللبناني.
هذا المبنى المعروف بـ"قلعة موسى" شُيد بإصرار صاحبه منذ 74 عاما ليصبح رمزا للبنانيين وأيقونة جذب سياحي للزائرين.
" العين الإخبارية" تأخذكم في جولة داخل القلعة للتعرف على قصة تشييدها..
قصة رسمة
" هذا ما حلمت به" عبارة راودت موسى عبدالكريم المعماري منذ صغره، وظلت عالقة في ذهنه حتى ترجمها على أرض الواقع بتشييد مبنى يشبه قصور الأمراء التي اشتهر بها لبنان منذ القدم.
عشق موسى فن المعمار والهندسة في السنوات الأولى من حياته، وزاد تعلقه بهذا الفن بعد أن سخرت منه إحدى زميلاته بالمدرسة وعمره لم يتجاوز 14 عاما. ويروي موسى عبدالكريم في نصوص القلعة، القصة قائلا: "أحببت زميلة لي بالمدرسة كانت تدعى سيدة، وعندما أفصحت لها عن حبي، سخرت مني بقولها: ما تحكي معي ما تمشي بجنبي، أنا والدي عنده قصره أما أنت فقير الحال".
ومنذ تلك اللحظة تحول حلم حياته إلى تشييد قصر يضاهي كل قصور مدينته، موجها لمحبوبته رسالة فحواها: "سأريكِ في المستقبل الفضة والذهب وقلعة تناطح السحاب شموخا وعظمة".
قضى الطفل الصغير أغلب أوقاته داخل المدرسة وخارجها يخطط لتصميم القلعة التي تمناها، وفي يوم طلب معلمه أنور عرنوق رسم عصفور على شجرة، بينما رسم الطفل رسمته المعتادة للقصر، ما دفع المعلم للسخرية منه وانقض عليه بالضرب، ممزقا رسمته وأجبره على الركوع.
مشهد تمزيق الورق أمام أعين موسى، زاده تحديا وإصرارا بينه وبين ذاته ومعلمه ومحبوبته، ولملم الرسم الممزق مرددا عبارة: "سوف تراها حقيقة في يوم من الأيام"، تاركا المدرسة للأبد متوجها في مشواره وحلمه رغم صعوبة ظروف الحياة من حوله.
حلم يتحقق
لم يدرِ بخلد أحد من المحيطين بموسى أن الرسمة التي صنعها وهو طفل، ستتحول في يوم من الأيام إلى حقيقة. من طرطوس السورية حيث كانت مدرسته، انتقل موسى إلى مدينة صيدا جنوب لبنان للعيش مع عمه عيسى المعماري عام 1945 دون أن تدري أسرته قرار تركه للدراسة. وكانت قلعة صيدا البحرية هي بداية طريق موسى في المعمار ليساعد عمه في ترميم القلعة.
وفي عام 1949 حصل موسى على خبرة كبيرة في ترميم المناطق الأثرية، ليكلفه الأمير موريس شهاب المسؤول عن ترميم المناطق الأثرية، بمهمة ترميم قصر بيت الدين وقصر أمير جبل لبنان والمتحف الوطني، وعُين مسؤولا عن الاكتشافات في بلدية بيروت.
من هنا بدأت ترتسم ملامح الحياة بجمعه أموالا تقدر بـ15 ألف ليرة لبنانية في 18 سنة وشراء قطعة أرض، متذكرا عبارة والدته الداعمة له دائما: "يا رب اجعل التراب بين يدي موسى ذهبا".
تزوج موسى من "ماري" ابنة قائم مقام منطقة "دير القمر"، وفي عام 1963 بدأ موسى وزوجته في مراحل التشييد الأولى للقلعة، لتتحول رسمته الممزقة إلى حقيقة بعد 70 عاما من العمل في المعمار.
رسائل للماضي
بنحو 6540 حجرا ضخما، بنى موسى قلعته على مساحة 3500 متر مربع، وحرص على نحت أحجارها بنفسه بأشكال تظل علامة مميزة في معمارها. وعلى الرغم من مرور السنوات، لم يغِب عن بال موسى سخرية الآخرين من حلمه القديم، تاركا رسالة في تصميم القلعة لكل من محبوبته القديمة ومعلمه.
صُمم أحد أبواب القلعة بارتفاع منخفض، ليجبر محبوبته ومعلمه على الانحناء عند زيارة القلعة، كما صمم مجسما لمشهد ضرب المعلم له، بتصميم الفصل والتلاميذ جالسين بجواره والمدرس يضربه بالعصا.
لم يمهل القدر موسى أن يدعو معلمه لزيارة القلعة ومشاهدة كيف تحولت الرسمة الممزقة إلى حقيقة، بينما زارت محبوبته "سيدة" القلعة ودخلت بانحناء وكان هو وزوجته في استقبالها.
على جدران القلعة دوّن موسى كل عبارات والدته المشجعة، وعبارته الأخيرة: "دخلنا شبابا وخرجنا شيبا"، معلقا صورا تجمعه بأسرته ومراحل تشييد القلعة وزيارات الرؤساء والشخصيات العامة في لبنان.
تجسيد تراث لبنان
كما كانت القلعة حلما شخصيا لموسى، أصبحت أيضا نموذجا يجسد الحياة في لبنان في القرنيين 19 و20، عبر 30 غرفة تضم أكثر من 160 تمثالا متحركا صنعها موسى، ومتحف الأسلحة الفريد المكون من 16 ألف قطعة سلاح.
انتماء موسى لأسرة فقيرة الحال، جعله منحازا في تجسيد الحياة الاجتماعية للبنان إلى المهن البسيطة والأسرة متوسطة الحال. ضم المدخل متحفا للحرف اليدوية يشمل الحداد والنجار والمزارع والصياد أثناء ممارستهم المهن، ومظاهر للحياة اليومية لمختلف المناطق في لبنان مثل السيدات العاملات في الأعمال المنزلية والمرأة الريفية وطبيعة حياتها، وراعي الأغنام وعازفين لآلات موسيقية مثل الدف والربابة والعود، ومجسمات للمحاكمات ورجال الدين اللبناني.
وفي آخر ممرات القلعة، وضع موسى قطعا من المعادن والأحجار الثمينة وأسلحة منذ الاحتلال الفرنسي للبنان، وكتب عبارة: "علمتني الحياة أن العالم لن يتوقف عن الاستمرار بعد موتي، والأرض لن تحجم عن دورانها، والشمس لن تكف عن شروقها وغروبها". أما في نهاية الممر فسجل أيضا زائرو القلعة عبارات وداع لصاحبها الذي رحل العام الماضي، تاركا أيقونة معمارية تجسد تاريخ لبنان.