لا بدّ من إدراك حقيقة مفادها أن لبنان لم يكن في يوم من الأيام فقيراً ليتبجح بهذه الاسطوانة من أراد إبعاد المسؤولية عن نفسه.
عندما خرج اللبنانيون إلى الساحات هاتفين "كلن يعني كلن" لم تكن تلك مجرد هتافات جوفاء، فمن أعلم من الشعب بحال الشعب والبلاد؟ لا سيّما أنّ الحراك اللبناني كان حراكاً ممثلاً للشعب بكل أطيافه السياسية والطائفية والمجتمعية، حراكٌ لشعبٍ ضاق ذرعاً بأحوال بلاده التي لم تعد القوى السياسية التقليدية قادرةً على جسر الهوّة بين مطامعها الحزبية وأوضاع البلاد القانونية والمعيشية، حتى أصبح لبنان ولّاد أزماتٍ، فكل مشكلة إدارية أو خدمية باتت أزمةً ومعضلةً تلقي بظلالها على المشهدين السياسي والشعبي، وما أزمة النفايات عنّا ببعيدة، لذلك فإننا إذا فتشنا عن جوهر الأزمة التي يعيشها لبنان واللبنانيون اليوم نجد بأنها لم تكن بحال من الأحوال أزمة اقتصاديةً؛ وإنْ كان الاقتصاد شرارتها الأولى، إنما هي أزمة سياسية بامتياز.
وهذه الأزمة السياسية ليست إلا صنيعة التيارات السياسية التي لا تولي مصلحة لبنان قدر شعرة مما توليه لمصالحها الحزبية والسلطوية، فلطالما كانت تسمية رئيس الحكومة معضلة تهدد لبنان بالفراغ السياسي والضياع على شفير هاوية دمار العقد الاجتماعي والسياسي الذي يتعاهده لبنان واللبنانيون، ونقله إلى مبدأ "مصالحنا أو دمار لبنان"، وتكمن المفارقة اليوم أنه بمجرّد التوجيه والتهديد الفرنسي للقوى السياسية على لسان الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" تم الاتفاق على "مصطفى أديب" رئيساً للحكومة وبظرف أيامٍ إن لم نقل سويعات بمعدل زمني قياسي لم يحدث يوماً في لبنان، ولكن الأمر لم يقف هنا، وكأنّنا أمام مرحلة جديدة تعرّي الساسة اللبنانيين بكل مسمياتهم السياسية والحزبية وتضعهم وجهاً لوجه أمام حقيقة "حزبي وليذهب لبنان إلى الجحيم"، فتصرفات التيارات السياسية توحي بأنّ المعادلة اللبنانية بعرف التيارات السياسية قائمة على هذا المبدأ، فها هو "مصطفى أديب" يعتذر عن تشكيل حكومته بسبب عدم توافق الكتل على أسماء الوزراء، فيبدو أنّ الساسة بانتظار التهديد الخارجي لفعل ذلك.
فكل تيار يحاول جذب الغطاء على عورته السياسية بحقيبة وزارية، ومما يزيد الوضع السياسي الفاسد وضوحاً هو النزاع على وزارة المالية موطن الفساد الأكبر، والتي يحاول كل حزبٍ أن يضمن هذه الورقة لضمان ما سيترتب عليها من سؤالين جوهريين يجعلان الساسة أمام ورطة قانونية وسياسية ألا وهما: "من أين هذه الأموال، وأينَ ذهبت؟" فلو أُخضع الكل لهذين السؤالين وتم البحث بجدية عن أجوبة دقيقة لهما فإنك ستجد الجميع خلف القضبان أو خارج الحدود، ولا سيما حزب الله الذي تشير التقارير القانونية والدولية إلى استغلاله لموارد لبنان وأمواله لتمويل ميليشياته وأعماله الحزبية الضيقة، وحركة أمل التي تبحث عن وزارة دسمة لتغطية الفساد الحاصل والمنافسة على قيادة المكون الشيعي، أما التيار السياسي السني علاوةً عن إبقاء ملفات الفساد طي الأدراج فيبحث لنفسه عن وزارات سيادية همُّها الهيكل السياسي اللامع بغض النظر عن الكفاءة والقدرة على إنقاذ لبنان، وكذلك التيارات السياسية المسيحية والدرزية التي لا تقل تورطاً وفساداً في أزمة لبنان السياسية والاقتصادية فهي كذلك لا نية لها للخروج عن المسميات القديمة، وكأن القضية قضية حفاظٍ على إرثٍ بالٍ، وبين كل هذه التجاذبات السياسية والمطامع والفساد المنهك للبنان بلاداً وعباداً تجد أبناء الشعب اللبناني بكل طوائفه التي تحكُم باسمها الزمرُ السياسية يموتون غرقاً وجوعاً، ومن يحكم باسمهم يعيش برفاهٍ ويحارب من أجل زيادة حصته لا من أجل إعطاء الشعب حقوقه.
وفي نهاية المطاف لا بدّ من إدراك حقيقة مفادها أن لبنان لم يكن في يوم من الأيام فقيراً ليتبجح بهذه الاسطوانة من أراد إبعاد المسؤولية عن نفسه، فلبنان كان ومازال قادراً على النهوض والعودة إلى الاستقرار والأمان والبحبوحة، فلم يتغير شيء في لبنان، إلا أنّ الفساد استشرى والفاسدين طغوا، فالموارد هي الموارد والشعب هو ذاته، وطموح الشعب متنام لبناء لبنان، فهو يرنو إلى الأمثلة العربية والعالمية الواضحة أمامه في بناء البلدان والارتقاء بها، وما الإمارات عن اللبنانيين ببعيدةٍ، وهم المستثمرون بها المتاجرون معها، ولكن مردّ الأمر إلى الساسة والتيارات التي لا تؤمن إلا بالإرث السياسي والسلاح والهياكل البراقة لاستدامة سلطانها، وبنهب ما استطاعت لزيادة أرصدتها خارج لبنان حتى ليس في لبنان، فكلهم متورطون بهدم لبنان وتجويع شعبه وتحويله إلى دولة محكومة من الخارج لا صوت للبناني فيه، الأمر الذي يؤكّد أنّ أزمة لبنان إنما هي سياسية بنكهة اقتصادية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة