تضغط فرنسا على الزعماء الطائفيين المنقسمين في لبنان لتشكيل الحكومة لتنفيذ إصلاحات اقتصادية، لمعالجة أعمق أزمة منذ الحرب الأهلية.
يشهد لبنان منذ السابع عشر من تشرين الأول 2019م تظاهرات شعبية غير مسبوقة تضغط باتجاه إسقاط المنظومة السياسية التي هيمنت بكل صفاقة على مقدرات لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية، وتميزت هذه التظاهرات بأنها ذات أبعاد شعبية شاملة، وعابرة للطوائف والمناطق ومتفاوتة في أعمار المشاركين فيها والطبقات الاجتماعية التي ينحدرون منها.
وتوحدت التظاهرات الشعبية بدلالاتها، وعلى ما تنطوي عليه ضمناً وعلانية في سائر الساحات اللبنانية بعنوان موحد، ألا وهو إسقاط الطبقة السياسية الحاكمة برمتها المسؤولة عن تردي الأوضاع العامة، ومحاسبة من تسبب بانفجار مرفأ بيروت، واسترداد الأموال المنهوبة ومحاسبة الفاسدين، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، معلنة تلك المجموعات الناشطة في حراكها الوطني بما فيها الأحزاب المعارضة من ساحة الشهداء في بيروت عشية تسمية مصطفى أديب، لرئاسة الحكومة الجديدة التي تبدو تكنوسياسية على عكس رغبة الشارع الذي يريدها حكومة تكنوقراط اختصاصيين مستقلة، لا حكومة محاصصة لإنقاذ البلاد من الأزمات، وأن ما يشهده لبنان حالياً سببه جشع الساسة.
النظام الطائفي في لبنان جذوره تمتد إلى أكثر من مئة وخمسين عاماً من الزمن وأصبح بالتالي جزءاً أساسياً من هوية وسلوكيات وثقافة الشعب اللبناني، ولا يزال النظام الطائفي يتحكم بواقع لبنان سياسياً واجتماعياً ودينياً، ويبدو الخلاف الأوسع بين السنة والشيعة، والذي كانت له تداعيات دراماتيكية في بلاد الشام على وجه الخصوص، هو الأكثر وضوحاً وقابلية للانفجار من هذه التفاعلات المتمحورة حول الهوية، والنظام الطائفي يأتي بعد مرحلة النظام القبلي أو العشائري الذي يسود المجتمع في طور التحول والصيرورة نحو الدولة التي تنصهر فيها القوميات والأعراق في بوتقة الدولة الحديثة.
ويتخبط اللبنانيون في مرحلة الطائفية السياسية، في العبور نحو الدولة الحديثة التي يشعر من خلالها الفرد بانتمائه للوطن، ومن هنا لا تنشأ الطائفية في الغالب إلا في مجتمعات ما قبل تكوين الدولة، ويظل النظام الطائفي متخلفاً عن مواكبة مرحلة الدولة ومصادرته لمبدأ المساواة وحسن المواطنة الكاملة بين المواطنين، لا سيما ما يتعلق بتكافؤ الفرص وهو المبدأ الذي يضعه الدستور في رأس مقوماته.
لبنان في مأزق والمؤسسات الدستورية معطلة والمرافق العامة مهددة بالشلل، والوضع الأمني خطير ولبنان المنهار اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً مهدد على مستوى المؤسسات الدستورية ويتمثل هذا المأزق بوجود مجلس نواب لا يجتمع في الأوقات العصيبة، ومطالبة المحتجين بإجراء انتخابات نيابية مبكرة، وحكومة مستقيلة تصرف أعمالها حتى تأليف حكومة جديدة، وانتخابات رئاسية أيضاً مبكرة، إذ تنتهي ولاية الرئيس عون في 2022م ويُخشى من الفراغ في سدة الرئاسة لأسباب متعددة، فانطلق الجدل حول مدى دستورية حكومة تصريف أعمال في حال لم يتم تشكيل حكومة جديدة أو في حال شكلت حكومة جديدة ولم تنل ثقة المجلس النيابي.
ولدى لبنان فرصة هامة لالتقاط هذه اللحظة الإقليمية والدولية المواتية، بعد كارثة انفجار المرفأ وما لقيه لبنان من دعم دولي غير مسبوق، وفي زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون الثانية إلى بيروت أبدى استعداده لتنظيم مؤتمر ثانٍ لدعم لبنان بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة نهاية شهر تشرين أول القادم، وسرعان ما استبق السياسيون اللبنانيون في اجتماع مجلس النواب بالتوافق على تكليف رئيس حكومة جديد، والمبادرة إلى ضرورة إنجاز حكومة جديدة موثوقة، وقادرة على الإنقاذ ولملمة جراح المكلومين، والأولوية للتعافي الاقتصادي والمالي، وغالباً ما يأخذ تشكيل الحكومات في لبنان وقتاً طويلاً نظراً للمحاصصة والصراعات السياسية، وهناك تنسيق أميركي فرنسي، بخصوص المسار الذي ستسلكه الأمور في لبنان في المرحلة المقبلة.
وتضغط فرنسا على الزعماء الطائفيين المنقسمين في لبنان لتشكيل الحكومة لتنفيذ إصلاحات اقتصادية، لمعالجة أعمق أزمة منذ الحرب الأهلية، وانقضى أجل موعد نهائي اتفق الساسة اللبنانيون عليه مع باريس لتشكيل الحكومة دون إحراز تقدم، وتعثرت العملية في ظل إصرار الفصيلين الشيعيين وهما جماعة حزب الله وحركة أمل، على تسمية وزراء شيعة بالحكومة، وأن يكون وزير المالية منهم، في حين يرى عون أنه لا يلوح في الأفق أي حل قريب لتشكيل الحكومة، وفي حال لم تشكل الحكومة، فإن لبنان سيمضي في طريقه إلى جهنم، واقترح عون إلغاء التوزيع الطائفي للوزارات التي تعتبر سيادية للخروج من أزمة تشكيل الحكومة.
ورغم صعوبة الظرف المالي والاقتصادي الذي يمر به لبنان وتدهور الوضع الاجتماعي فإن ما يشغل القادة السياسيين المتخاصمين في لبنان، هو المعركة المحتملة على حلم الرئاسة اللبنانية خلفاً للرئيس ميشيل عون الذي يعاني عهده السياسي من انفجارات كارثية وانهيارات اقتصادية، كان آخرها الانتفاضة الصارخة التي توحي أنها ستفتح معها حقبة سياسية جديدة، وإن ظل لبنان العربي يرسف تحت تأثير جملة من الحالات السياسية المتهالكة، بإخضاعه لتداخلات خارجية واندفاعات داخلية، فإنه لن يصل إلى شاطئ الأمان والسلامة حينها لا محالة من أن تبقى جراحاته النازفة ملتهبة وآلامه المبرحة دائمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة