الثورة العربية الكبرى ميلاد مشروع عربي في مواجهة مشروع عثماني استعماري مستبد، حققت تلك الثورة انتصارات كبيرة حتى رضخ العثمانيون.
"كثير من السياسيين أرادوا أن يغيروا التاريخ فغيروا الجغرافيا".
تلك إذن مقولة خالدة، مع مرور السنين والعقود اختفى السياسي وغاب التاريخ في عهدة رواته المتقلبين، بل تبدل وتغير في أحايين كثيرة، ولم يبق مع الوقت سوى الجغرافيا.
قصر الصنوبر، الذي أصر الرئيس الفرنسي ماكرون على أن يستضيف فيه السياسيين اللبنانيين، ويعقد فيه مؤتمره الصحفي، هذا القصر هو نموذج لانتصار الجغرافيا على التاريخ.
تاريخ بناء هذا القصر في عام 1916، هو تاريخ التغيرات الكبرى في المنطقة ويمكن أيضا عبر هذا القصر أن نقرأ عبر تاريخ لبنان والمنطقة كاملة.
قصر الصنوبر، الذي بناه "الفرد موسى سرسق"، بناء على طلب من والي بيروت "عزمي بك"؛ ليكون كما في بعض الروايات كازينو ملحقا به مضمار لسباق الخيل، لم يستمر ذلك القصر لبنانيا كثيرا، إذ وضع الانتداب الفرنسي يده عليه ليكون مقرا لمفوضيتهم السامية، ومنه في عام 1920 أعلن الجنرال "غورو" المندوب الفرنسي إنشاء "لبنان الكبير".
ليضم مدن ساحل البقاع وطرابلس والجنوب وسهل عكار إلى جبل لبنان، ثم في مايو 1923 أعلن قيام الجمهورية اللبنانية واختير "شارل دباس" رئيسًا لها.
استمر قصر الصنوبر، هو مركز الإدارة والتحريك والتغيير طوال سنوات طويلة امتدت حتى 1943 وهو تاريخ استقلال لبنان.
في الأول من سبتمبر 1920، كان قصر الصنوبر المكان الذي أعلن منه لبنان الكبير حين وقف غورو وأعلن ذلك.
وفي الأول من سبتمبر 2020، وقف "ماكرون" الرئيس الفرنسي الحالي، ليقول للجميع "إننا من وجدنا لبنان الكبير وسنحافظ على صنيعتنا".
أو ربما أراد أن يقول إن الفرنسيين لا يتخلون عن صنيعهم، أو يؤكد أن المشروع الفرنسي الفرانكوفوني لم يمت بل ما زال يسيطر ويحكم .
ماكرون، حاول أن يكون دبلوماسيا جدا، لكن يقين القلب يغلب حرص اللسان، فبقدر ما أكد على أن لبنان دولة مستقلة قادرة على إدارة أمورها، وأن اللبنانيين هم الذين لهم حرية اختيار من يحكمهم، بقدر ما باح بما في قلبه حين ارتدى عباءة "الجنرال غورو" المؤسس الأول كما يقولون في فرنسا، وهو يلوح بالعصا كما لوح بالجزرة أحيانا. فالعقوبات ليست مستبعدة على السياسيين، خصوصا في مجال الفساد ومجال الإرهاب، إن لم يفوا بالتزاماتهم.
تلك إذا محطات مفصلية وعابرة، تتخطى التاريخ إلى الجغرافيا وبينهما السياسي قائم، فمحطة تأسيس قصر الصنوبر 1916، هي محطة التغيرات الكبرى حين انطلقت شرارة "الثورة العربية الكبرى"، التي تعتبر بداية المشروع العروبي القومي والمتوحد الذي يمتد جغرافيا من بلاد الحجاز إلى بلاد الشام.
الثورة العربية الكبرى ميلاد مشروع عربي في مواجهة مشروع عثماني استعماري مستبد، حققت تلك الثورة انتصارات كبيرة حتى رضخ العثمانيون ووقعوا اتفاقية "سيفر"، وتنازلوا عن بلاد "الشام ، نجد، الحجاز، العراق ومصر".
وبدأ المواطن العربي وقتها يشعر بشيء من الفحر والتحرر الحقيقي ورفعت الأعلام العربية لأول مرة على المؤسسات الحكومية في دمشق وطرابلس وبيروت.
لم يلبث ذلك المشروع العربي في الانتعاش حتى انقض الفرنسيون على بيروت ومنها ساروا إلى دمشق. وبعد أن تم تقسيم بلاد الشام إلى ثلاثة أقاليم "سوريا – لبنان – فلسطين "، حسب مؤتمر سان ريمون 1920، كان لمسلمي لبنان تحفظات كبيرة على سلخ لبنان الكبير من محيطة العربي، إذ كانوا يميلون إلى بقائهم ضمن سوريا الكبرى بقيادة الأمير فيصل بن الحسين.
ثم خرج ذلك عن المشروع العروبي عن دائرة الدين، وأصبح مشروعا تحكمه الانتماءات العروبية أكثر من الدينية، وظهر لهذا المشروع رواد كبار ومؤثرون منهم رياض الصلح ، بشارة الخوري وخير الدين الأحدب وغيرهم.
في نفس الوقت بقي مسيحيو لبنان يميلون إلى البقاء في حماية الفرنسيين، دارت نقاشات كثيرة وتوصلوا إلى شرط ألا يطالب المسيحيون بحماية فرنسية ولا يطالب المسلمون بالانضمام إلى سوريا الكبرى.
مع بداية الحرب العالمية الثانية، وبعد أن بدأت فرنسا تزداد في الطغيان والسيطرة على المراكز الحساسة، تقدمت الحكومة اللبنانية سنة 1943 إلى المفوضية الفرنسية تطالب بتعديل الدستور بما ينسجم مع الأوضاع، وكان هذا الطلب بدعم من البريطانيين الذين حكموا فلسطين والأردن والعراق.
وفي 21 سبتمبر من السنة نفسها فاز بشارة الخوري بالانتخابات وأصبح رئيساً للجمهورية وألف حكومته رياض الصلح وأعلنوا الاستقلال التام، وتحول مشروع تعديل الدستور إلى المجلس النيابي، واعتبر هذا القرار تحديا للمفوض السامي مما جعله يأمر بتعليق الدستور، وأرسل ضباطاً إلى رئيس الجمهورية فاعتقلوه مع رئيس وزرائه وبعض الوزراء والزعماء الوطنيين مثل عادل عسيران، كميل شمعون، عبد الحميد كرامي وسليم تقلا وحجزوهم في قلعة راشيا.
عندها قام رئيس المجلس النيابي آنذاك "صبري حماده" وبعض النواب، باجتماع مصغر في قرية صغيرة هي"بشامون"، وألفوا حكومة مؤقتة ورفع العلم اللبناني الذي تكون من ثلاث أقسام الأحمر، الأبيض وفي الوسط ضمن اللون الأبيض شجرة أرز خضراء.
وقد أدى هذا النضال إلى استقلال لبنان في 22 نوفمبر 1943، وبعد ذلك دعم لبنان نفسه بمشاركته بتأسيس جامعة الدول العربية سنة 1945 ثم انتسابه إلى هيئة الأمم المتحدة في نفس السنة.
واعتبر ذلك نجاحا للمشروع العربي بمسلميه ومسيحييه ودروزه وجميع طوائف لبنان.
عاش لبنان متعدد الطوائف، حيث كان المسلمون السنة والمسيحيون الأغلبية في المدن الساحلية، والمسلمون الشيعة الأغلبية في الجنوب ووادي البقاع إلى الشرق، وكان أغلب سكان الجبال من الدروز والمسيحيين.
المتغير المؤثر في هذا التوقيت هو إنشاء إسرائيل ونزوح مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان خلال عامي 1948 و 1967، مما أدى إلى تغيير التوازن الديموغرافي لصالح السكان المسلمين.
ثم انزلق لبنان إلى منحدر الاقتتال الذي بدأ بين الموارنة والقوات الفلسطينية "معظمهم من منظمة التحرير الفلسطينية" في عام 1975، ثم شكلت الجماعات اليسارية والعربية والإسلامية اللبنانية تحالفا مع الفلسطينيين خلال فترة القتال، تحولت التحالفات بسرعة وبشكل لا يمكن التنبؤ به.
وعلاوة على ذلك، شاركت القوى الأجنبية، مثل إسرائيل وسوريا، في الحرب وحاربت جنبا إلى جنب مع فصائل مختلفة ويمكن القول إن هذه المرحلة هي مرحلة تآكل المشاريع اللبنانية، أي أنها أكلت نفسها.
في عز سطوة الاقتتال الداخلي ظهر مشروع جديد عام 1982، حين اجتاح الإسرائيليون لبنان، وهنا دخل مشروع إسرائلي صهيوني على خط الصراع اللبناني والمشاريع المطروحة وقتها الفرانكوفونية والعربية، واستمروا حتى مايو 2000 تاريخ انسحابهم .
مع دخول المشروع الإسرائيلي تسرب وقتها مشروع آخر هو المشروع الفارسي الإيراني عبر تأسيس "حزب الله"، بحجة مقاومة المحتل الإسرائيلي، ورفع الحزب وقته شعارات تؤكد ذلك بل وتحولت الشعارات إلى أفعال في 1983، حين تم تفجير مقرات القوات الأمريكية والقوات الفرنسية.
ومع تغير قيادات حزب الله من صبحي الطفيلي إلى عباس الموسوي، حتى وصلت إلى حسن نصرالله الأمين الحالي، كان المشروع الفارسي يتضح أكثر.
من وقتها قاد حسن نصرالله، مشروعا فارسيا شرسا ضد المشروعين الباقيين في لبنان وهو المشروع اللبناني العربي واللبناني اللبناني، واعتبر نصرالله، القائد الفارسي الذي اريد له أن يبتلع مخرجات اتفاق الطائف الذي نقل لبنان من الهدم إلى البناء.
وفي 2020 يمكن القول أن حزب الله، كان الأداة الفارسية التي ابتلعت المشروع اللبناني بشقيه العربي والفرنسي، وكان حقا بقرة عاجفة تأكل بقرة سمينة، وسنبلة جافة تاكل سنبلة يانعة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة