أزمة معيشة غير مسبوقة في لبنان تهدد الشباب بالانتحار
المعاناة التي دفعت شابين إلى التخلُّص من حياتهما باتت تؤرق كل عائلة ومنزل في لبنان.
خلال أسبوع واحد سُجِلَتْ حالتا انتحار في لبنان نتيجة الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعاني منها المواطنون اللبنانيون في الفترة الأخيرة، فيما لا تزال التحقيقات مستمرة حول أسباب انتحار شاب ثالث وهو عنصر في قوى الأمن الداخلي.
استفاق اللبنانيون، الأربعاء، على خبر انتحار الشاب داني أبو حيدر (41 عاماً)، وهو أب لـ3 أطفال، بعدما وجد نفسه عاجزاً عن تسديد ديونه والمستحقات المتوجبة عليه، بعد أن صُرِف من عمله، وفق ما أعلنت عائلته.
وقبل أبو حيدر، أقدم ناجي الفليطي (42 عاماً)، الإثنين، على الخطوة نفسها لعدم قدرته على تلبية طلب ابنته الصغيرة بالحصول على ألف ليرة لبنانية (50 سنتاً) لشراء منقوشة زعتر، بعدما لم يعد قادراً بدوره على تسديد ديون لا تزيد على 350 دولاراً، وفق ما صرحت زوجته لوسائل إعلام محلية.
وبين أبو حيدر والفليطي، لم تجد السيدة حليمة معلم إلا اللجوء إلى عرض كليتها للبيع مقابل 5 آلاف دولار، لتسديد ديونها أيضاً وتأمين بدل إيجار منزلها، وهو ما أعلنته لوسائل محلية، وانتشرت قصتها على وسائل التواصل الاجتماعي.
هذه الحالات تُشكِّل نموذجاً للأوضاع المعيشية الصعبة التي باتت تعاني منها العائلات اللبنانية في ظل الأزمة المتفاقمة، التي يقول الخبراء الاقتصاديون إنَّها الأصعب، ولم تصل إلى هذا الحد حتى في الحروب وفي أصعب المراحل فيما لا تلوح في الأفق أي حلول قريبة.
المعاناة التي دفعت الشابين إلى التخلُّص من حياتهما باتت تؤرق كل عائلة ومنزل في لبنان، فها هي منى (35 عاماً) أم لطفلين تعمل في شركة سياحية تؤكد لـ"العين الاخبارية" أنها لم تحصل إلا على نصف راتبها هذا الشهر، كما زوجها الذي يعمل في شركة لبيع الملابس.
وتقول إنَّ المبلغ الذي حصلت عليه وزوجها لن يكفي لتسديد قرض شراء منزلهما وقسط المدرسة لولديهما.
وتشير إلى أنَّهما رغم ذلك لن يتمكنا من الحصول على هذا المبلغ إلا بالتقسيط، نتيجة الإجراءات التي تفرضها البنوك والتي تتراوح بين 200 و400 دولار إذا كان الحساب بالعملة الخضراء أو حوالي 3 ملايين ليرة لبنانية (1500 دولار أمريكي) أسبوعياً.
وتضاعف القيود التي تفرضها البنوك من معاناة اللبنانيين، الذين سبق لهم أن استبقوا مثل هذه الأيام بالاحتفاظ ببعض المدخرات، لكنهم لم يتوقعوا أن يأتي يوم ويصبحون فيه غير قادرين على سحبها.
وتعبِّر سالي (40 عاماً) التي تخصص يوماً في الأسبوع للذهاب إلى المصرف للحصول على المبلغ المحدد لها أسبوعياً عن هذه المعاناة.
وتقول سالي لـ"العين الاخبارية": "حسابي بالدولار الأمريكي ويشترطون عليّ سحبه بالليرة اللبنانية من ماكينات الصرافة الخارجية مقابل سعر صرف الدولار الذي حدده المصرف المركزي بـ1515 ليرة، بينما سعر صرفه لدى الصرافين 2000 ليرة لبنانية، أو أن أنتظر ساعات داخل البنك إذا أردت الحصول عليه بالدولار وبالتقسيط".
وتضيف: "عليّ قروض ينبغي دفعها بالدولار، نشعر وكأننا نشحذ أموالنا التي بتنا خائفين عليها ونسمع أن الأيام المقبلة ستشهد نفاداً للدولار من البنوك".
وإذا كان هناك مَن لا يزال يستطيع الحصول على المال من المصرف أو من راتبه فإن آلافاً آخرين صُرفوا من وظائفهم وباتوا عاطلين نتيجة إقفال عدد كبير من المؤسسات في الأسابيع الأخيرة، في وقت تتزايد أسعار المواد الاستهلاكية والغذائية وصلت في بعض الأحيان إلى نحو 40%، بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار، وفق ما يقول التجار.
وتعكس الأخبار التي تنتشر يومياً في لبنان مشكلة اجتماعية كبيرة قد تصيب العائلات نتيجة الأزمة التي بدأت تطال مختلف القطاعات، من توقف المؤسسات وصرف الموظفين، بينما تفرض البنوك قيوداً كبيرة على صرف الأموال، وتعطي جزءاً صغيراً لا يكفي لتأمين مستلزمات اللبنانيين.
وعبّرت النائبة ستريدا جعجع عن هذا الواقع بإعلانها إلغاء مهرجانات الأرز الدولية لعام 2020، وقالت، الأربعاء، عبر حسابها في "تويتر": "كيف سننظم المهرجان والناس في لبنان لا يجدون ماذا يأكلون ولا يملكون المال للعلاج أو لتعليم أولادهم أو لتعبئة البنزين في سياراتهم؟".
وأضافت: "كيف سننظم المهرجان وهناك حوالي 100 ألف موظف سيصرفون من أشغالهم قبل نهاية العام؟ كيف سننظم المهرجان وداني أبو حيدر انتحر لأنه صرف من عمله؟".
ومنذ الشهر الماضي، اتخذت مؤسسات عدة قرارات بتخفيض رواتب موظفيها إلى النصف، فيما تقدمت بعض الشركات بطلبات إلى وزارة العمل لإنهاء عقود العمال لديها، وهو ما سبق أن أقر به وزير العمل في حكومة تصريف الأعمال، كميل أبوسليمان، في حديث صحفي.
وفي هذا الإطار، أبدى رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال لبنان، مارون الخولي، استغرابه في بيان له قبل حوالي أسبوع، "غياب وزارة العمل عن عمليات الصرف التعسفي دون أي تدخّل لحماية العمال، لا سيما إقدام أصحاب العمل على خصم رواتب من بقي منهم بنسبة وصلت إلى 50%، مستغلين الأوضاع التي تمر بها البلاد".
ودعا الخولي وزارة العمل للكشف عن الإحصاءات الرسمية لعمليات الصرف الجماعي، التي تقوم بها المؤسسات والشركات منذ الأول من أكتوبر/تشرين الأول، وتوثيق الانتهاكات الحاصلة بحق العمال.
ومع بداية ديسمبر/كانون الأول، بدأت هذه الدائرة تتوسع مع إعلان المزيد من المؤسسات إغلاق أبوابها أو اتخاذ إجراء خفض الرواتب نفسه، وهو طال المستشفيات والمدارس وحتى المؤسسات الإعلامية وغيرها.
وإذا كان البعض لجأ إلى هذا الخيار رغم مخالفته للقانون وللعقد الموقع بين المؤسسة والموظف، فإن مئات المؤسسات السياحية لم تعد قادرة على الاستمرار وأغلقت أبوابها.
وتُشكِّل محلات "آيشتي" أحد أكبر المتاجر في لبنان نموذجاً لهذه المؤسسات، وأعلن عن دعوة لوقفة احتجاجية، الخميس، أمام محلاتها في وسط بيروت، بعد أن تعرَّض أكثر من 100 عامل للصرف وقضم الأجور للمطالبة بحماية حقوق العمال.
كذلك أعلنت قبل أيام نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي إغلاق 265 مقهى ومطعماً أبوابها نهائيًا في غضون شهرين.
وتوقعت النقابة ارتفاع معدلات الإغلاق خلال شهر ديسمبر/كانون الأول مع استمرار الوضع الحالي لتنضم 200 مؤسسة أخرى إلى سابقاتها، ليكون العدد النهائي للمؤسسات في 3 أشهر نحو 465 مؤسسة.
والأزمة الاقتصادية هذه التي باتت تهدد كل منزل انعكست كذلك على الطلاب والتلاميذ في المدارس، بحيث اعتمدت إدارات مدارس عدة إجراء نصف الراتب أيضاً، واعتذرت أخرى من معلميها لعدم قدرتها على دفعها من الأساس لعدم تسديد الأهالي أقساط أبنائهم.
تقول الأستاذة الجامعية "سمر" لـ"العين الإخبارية"، إن أحد الطلاب في السنة الثانية أخبرها أن والده صُرِف من العمل وهو غير قادر على دفع بدل التسجيل الذي لا يتجاوز 250 دولاراً، و"عندما اقترحت عليه مساعدته في ذلك، كان جوابه (ومن أين أحصل على دفع بدل تنقلاتي اليومية من البيت إلى الجامعة؟)".
والمشكلة هذه لم تطل فقط الطلاب اللبنانيين في الداخل، فمَن يدرس في الخارج ويعتمد على مساعدة أهله في لبنان بات أيضاً غير قادر على الحصول على الأموال بسهولة.
وهذا ما تعبر عنه السيدة "مي" قائلة لـ"العين الاخبارية": "ابني يدرس في فرنسا ويملك بطاقة مصرفية من لبنان فبات غير قادر على سحب الأموال منها، إضافة إلى أننا غير قادرين على الحصول على المبلغ المطلوب لإرساله إليه نظراً إلى القيود التي فرضتها المصارف".
وتُحذِّر الخبيرة الاقتصادية فيوليت بلعة من الأسوأ في حال استمرت السلطة في اعتماد السياسة نفسها كما في السابق وقبل نزول اللبنانيين إلى الشارع، متجاهلة الواقع المرير اجتماعياً ومعيشياً الذي يعاني منه الشعب.
وتقول بلعة لـ"العين الاخبارية": "عندها سنكون أمام كارثة اجتماعية لا تحمد عقباها بحيث تزيد البطالة وتقفل المؤسسات وتنعدم فرص العمل ويزيد التضخم مع تراجع سعر الليرة وزيادة الأسعار وسيؤدي عندها الفقر والعوز إلى جرائم وسرقات ومشكلات اجتماعية بعد سقوط شبكات الأمان الاجتماعية الواحدة تلو الأخرى، وهذا وضع خطير لم يشهده لبنان حتى في الحروب وفي أكثر أزماته صعوبة".
وتؤكد: "إصلاح هذا الوضع لن يتحقق إذا بقي الفرقاء السياسيون على سياستهم السابقة متبعين الأسلوب نفسه في المحاصصة في تشكيل الحكومة"، مؤكدة: "نريد إرادة صادقة للإنقاذ وهذا يتطلب حكومة تكنوقراط لتكون قادرة على إخراج البلد من مأزقه لأنه لا يمكن للطاقم نفسه الذي سبّب هذه الأزمة أن يقوم بالمعالجات والإنقاذ".
وحول الإجراءات المصرفية التي تصفها بلعة بـ"العشوائية" ونقص السيولة في يد المواطنين، تؤكد ضروة تنظيم الأمر بشكل دقيق كي لا تُعطى الأموال لغير مستحقيها أو لمَن يريد الاحتفاظ بها في المنازل.