لم أكن أتوقع أن الرأي العام في الكويت مازالت غالبيته متشبثة بهدفها القومي المتمثل بتحرير كامل التراب الفلسطيني.
وقد تعرفت على ذلك من خلال استبيان أجريته على تويتر" أجاب عليه أكثر من 800 مشارك. طرحت فيه التساؤل التالي: كيف ترى مستقبل القضية الفلسطينية؟ فكانت النسب للأجوبة كالتالي: (1) حل الدولتين %19. (2) تأسيس دولة للعرب واليهود %11. (3) تحرير كامل التراب الفلسطيني %70. وقد حدد أحدهم سنة التحرير في 2027 بناء على ما تنبأ به الشيخ أحمد ياسين. ولقد أعادتني هذه الأجوبة إلى بدايات تشكُّل وعيي بالنسبة للقضية الفلسطينية، وما جرى عليه من تغيرات أو من تطورات.
فأنا من الجيل الذي ولد بعد ثلاث سنوات من حرب فلسطين 1948. ولعل أهم حدث سياسي أسهم كثيراً في تشكيل ذاكرتي "الفلسطينية" كانت هزيمة يونيو "حزيران"، التي تمر علينا ذكراها الأليمة في 5 يونيو الحالي. فعندما اندلعت الحرب، كنت والغالبية العظمى من العرب نعتقد أن إسرائيل قد انتهت، حتى أني سألت أخي الأكبر صباح يوم 5 يونيو: هل تعتقد أننا سنسمع إذاعة إسرائيل الليلة؟ فكنت والأغلبية من العرب واثقين بالنصر، وأن إسرائيل التي علمتنا الأنظمة الثورية أنها تأسست عام 1948 بسبب الخيانات، قد انهارت وأن الجيوش العربية ستكون في حيفا ويافا وعكا، إن لم يكن في مساء الخامس من يونيو، فسيكون ذلك خلال يومين أو أكثر قليلاً.
ولكم أن تتخيلوا الصدمة عندما تأكدنا أن القوات الإسرائيلية وصلت إلى الضفة الشرقية من قناة السويس، وأنها قد احتلت هضبة الجولان ومدينة القنيطرة السورية، فأصبحت على بعد نصف ساعة من دمشق. وعلى الرغم من ألم الهزيمة، شاركت مع آلاف الكويتيين والمقيمين بتظاهرات رافضة استقالة جمال عبدالناصر، داعية إياه إلى التراجع عن هذه الاستقالة. وعشت السنوات الثلاث الأخيرة من الثانوية العامة على آمال مؤتمر القمة العربي الذي عقد بعد الهزيمة في الخرطوم، وعلى آمال ما سيحققه العمل الفدائي. وعندما اندلعت معركة الكرامة في 1968، رأينا فيها أن فلسطين ستتحرر ليس من خلال الجيوش العربية، وإنما من خلال العمل الفدائي الفلسطيني.
كنت أدرس في ثانوية عبد الله السالم التي كان ناظرها المرحوم جمعة ياسين، الذي كان يذكرنا بتحرير فلسطين من خلال العمل الفدائي في طابور كل صباح، حاثاً إيانا على التبرع وجمع التبرعات للعمل الفدائي. حينها كنت واحداً من أربعة كويتيين في الصف، والغالبية كانوا من الطلاب الفلسطينيين. كانت معرفتي بهم قوية لدرجة أنني تعلمت التفرقة بين اللهجات الفلسطينية. كنت أعرف أن فتحي من جنين، ووسيم من صفد، وعمر من طولكرم، ومحمد من نابلس، وزياد من غزة.
وانتقل حماسي وتعلقي بالقضية الفلسطينية إلى حيثما انتقلت بعد الثانوية. فكنت فعالاً ضمن نشاط الحركة الطلابية في الجامعة الأمريكية في بيروت، ومن خلال نشاط الاتحاد الوطني لطلبة الكويت في بيروت. وفي أول السبعينيات من القرن الماضي، كان حضور المقاومة الفلسطينية في عقول الطلبة وعواطفهم طاغياً. في تلك الفترة كان عرفات مهيمنا ليس على الحركة الطلابية في الجامعة فقط، وإنما كان مهيمناً على لبنان كلها. وكنا منحازين للمقاومة بشكل أعمى، مما جعلنا غير متفهمين لهموم اللبنانيين وعواطفهم الذين شعروا أن الحضور الفلسطيني في لبنان قد طغى على هويته اللبنانية.
وقد استمرت رؤيتي هذه، وربما تعاظمت في تحيزها بعد أن انتقلت للدراسة في آن آربر في ولاية مشيغان، خاصة أنني وصلت إليها بشهر قبل اندلاع حرب أكتوبر 1973. وإن كانت الحرب أثارت عواطفَ أدت إلى تآزر جهود الطلبة والجالية العربية في مشيغان، إلا أنها بالوقت نفسه كشفت مدى قوة وتأثير الحركة الصهيونية في الجامعة والولايات المتحدة بشكل عام. وفي ظل هذا الحماس والجهود المكثفة، لم يتراجع هدفنا المضمر والمعلن بتحرير كامل التراب الفلسطيني. هذا وعلى الرغم من الحماس والإصرار على الانتصار الكامل، فإن اطلاعنا كان محدوداً وربما سطحيا في ما يتعلق بتاريخ الحركة الصهيونية وتاريخ اليهود في أوروبا، وهم الذين أسسوا إسرائيل. وقراءاتنا كانت انتقائية، هدفها إثبات ما كنا نؤمن أو نعتقد به وليس لفهم التاريخ بصورة موضوعية.
وعندما اندلعت الحرب اللبنانية أخذنا الحماس لنرى لبنان محكوماً من الفلسطينيين واليسار اللبناني، متجاهلين تاريخ لبنان ودور المسيحيين في تأسيسه وازدهاره. وكنا حاضرين عندما تلقى أي محاضرة من قبل إسرائيلي أو أمريكي مناصر للصهيونية. فعندما ألقى إيغال ألون – وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق – محاضرة في آن آربر في نوفمبر 1978، قاطعته بصورة عفوية، فدفعت ثمناً غالياً لذلك. لكن في تلك الفترة كذلك بدأت تظهر أدبيات فلسطينية تدعو إلى التعايش بين العرب واليهود. وفي تلك الفترة تبنت الجبهة الديموقراطية التي رأسها نايف حواتمة فكرة تأسيس الدولة الفلسطينية. وما كان يميز الجبهة الديموقراطية هي علاقتها بالحزب الشيوعي الإسرائيلي، كونها هي كانت امتدادًا للحزب الشيوعي الفلسطيني.
هذا ومع أن الاستبيان الذي أجريته كان %70 من الذين أجابوا، يرون بضرورة تحرير كامل التراب الفلسطيني، و%19 منهم يرون حل الدولة الفلسطينية، وجدت نفسي ألتقي مع الـ%11 الذين يرون بتأسيس دولة واحدة للعرب واليهود. وبمعنى آخر أن تتطور إسرائيل نفسها إلى دولة تضم القوميتين. هذا وأرى أن %70 من الذين يريدون تحرير فلسطين بالكامل، ليست لديهم التجربة السياسية ولا المعرفة التاريخية الكافية بنشأة إسرائيل، أو بالأحرى بأسباب نشأتها. ولعله من المهم هنا أن نتطرق إلى حرب 1948 التي أدت إلى تأسيس إسرائيل الدولة.
نقلا عن القبس
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة