حضور موسكو على مسرح الأحداث في ليبيا سيضفي نوعاً من الهدوء ويخفض منسوب التوتر
المكاسب الاستراتيجية التي حققتها موسكو بوثبتها إلى ميدان الصراع الليبي وتحولها إلى راعٍ مباشر إلى جانب أنقرة لمجريات التفاوض بين طرفي الصراع وتحولها أيضا إلى منصة دولية تستقطب المعنيين به مباشرة، لا تقتصر على توسيع مناطق نفوذها في شمال أفريقيا والمغرب العربي عبر البوابة الليبية فحسب، بل تحجز بذلك موقعاً متقدماً لحضورها باتجاهات متفرعة على صعيد الموقف الجيو سياسي والاستراتيجي.
فهي أولا تمكنت من سحب نصف البساط من تحت أردوغان في هذا الملف بكل ما يحوزه من مقومات سياسية واقتصادية، لأنها تحولت إلى شريك فاعل ومؤثر فيه، وهي التي خبرت جيداً الرئيس التركي خلال إدارة الصراع على الساحة السورية وباتت تفهم جيداً نزواته وتقلباته واحتياجاته وهواجسه، ما يعني أن بوتين لن يجد صعوبة في إدارة ملف الصراع في ليبيا مع الجانب التركي، علاوة على أن توسيع دائرة نفوذها سيمنح موسكو إمكانيةً أكبر في التأثير على سياسة ونهج أردوغان في سوريا مستقبلاً، نظراً لأن الروس يتبعون في سوريا نهجاً سياسياً وعسكرياً أسس ويؤسس لمرحلة لاحقة تكون فيها سوريا عنواناً لحضورهم ونفوذهم دون منازع في المنطقة مع ما يتضمن ذلك من تأثير في مجمل ملفات وقضايا المنطقة.
برزت موسكو لاعباً وشريكاً دولياً وحيداً في الأزمة الليبية إلى جانب أنقرة، قبل ذلك شكل الموقف التركي الداعم سياسياً وعسكرياً مظلةً لحكومة طرابلس بشكلها الإخواني التي يرأسها فايز السراج، وبدا أردوغان كمن يتفرد بالقرار في تلك الساحة... بالتوازي مع تطور موقف بعض العواصم الأوروبية واتخاذها مواقف علنيةً وصريحةً رافضةً لأي شكل من أشكال التدخل العسكري الخارجي عموما، والتركي بشكل خاص في الأزمة الليبية، كانت موسكو في دائرة الاتهام التركي حول وجود "مرتزقة روس – جماعة فاغنر" تقاتل إلى جانب قوات المشير حفتر، قابلتها اتهامات واسعة لأردوغان بنقله مجموعات من المرتزقة السوريين من مسلحي الفصائل التي تأتمر بأمره للقتال إلى جانب قوات السراج.
مشهد أوحى باستبعاد احتمال التفاهم بينهما والتفاهم حتى بين أنقرة وبعض الدول الأوروبية وتحديداً فرنسا وإيطاليا، لكن الموقف الأوروبي لم يكن رافضاً للدور الروسي كما كان موقفهم حيال تركيا، ما سهل مهمة موسكو التي تدرك حساسية الأوروبيين حيال تركيا – أردوغان ومشاريعه التوسعية.. قد يبدو هذا البعد، رغم أهميته، أقل المكاسب الروسية إذا قورن بتحقيق بوتين لواحد من طموحاته العديدة في تلك المنطقة، ومنها الاقتراب من مصر وكذلك الجزائر؛ الدولتين العربيتين الأفريقيتين اللتين ترتبطان بعلاقات راسخة ومتوازنة مع روسيا وترفضان سياسة أردوغان ونزعته التوسعية، وهو بذلك يضيف رصيداً آخر إلى جعبته من أوراق اللعب والمنافسة والأدوار التي تتطلبها أي مستجدات مستقبلاً على المسرحين الإقليمي والدولي..
حضور موسكو على مسرح الأحداث في ليبيا سيضفي نوعاً من الهدوء ويخفض منسوب التوتر الذي أحدثه المشروع الأردوغاني في عموم المنطقة، لأنه يشكل عامل توازن بموازاة النزعة التركية
في إحصائية المكاسب ذات الأهمية الاستراتيجية يبرز اقتراب الحضور والنفوذ الروسي من مناطق ربما ظلت في حسابات موسكو بعيدة المنال، أو أن كلفة الوصول إليها ظلت بالنسبة لها باهظة الثمن، وهي بعض دول أوروبا المطلة على دول الساحل الغربي العربي، قد يكون التلكؤ الأوروبي وربما العجز أو الحسابات الخاطئة حالت دون قيامهم بدور مباشر ومؤثر على مجريات الأحداث في الساحة الليبية فأفقد بعض دول الغرب إمكانية التأثير ولم تتمكن من حجز مقعد لها في تلك البقعة توظفه في اللحظة المناسبة لخدمة مصالحها وتحافظ من خلاله على استقرار وأمن منطقة تشترك معها بحكم الجغرافيا والتاريخ، وكانت في غابر الأيام جزءا من مستعمراتها ومناطق نفوذها.
أوروبا اليوم تجد نفسها في مواجهة تمدد روسي ربما لم يكن في حسبانها، تمدد ناعم ودون صخب أو ضجيج، منذ الآن لم تعد أوروبا، واقعياً وسياسياً، قادرة على القفز فوق الحقائق الماثلة أمامها بعد حضور أبرز وأقوى وريث لخصمها وعدوها التاريخي، الاتحاد السوفيتي السابق، إلى حدائقها الخلفية ومناطق نفوذها إبان مراحل الاستعمار القديم، ولكن هذه المرة تطل موسكوعبر سلاح السياسة والدبلوماسية الحثيثة واقتناص الفرص المتاحة.
أيا تكن مخرجات الأزمة الليبية؛ فإن موسكو انتقلت عبر مساراتها الراهنة إلى داخل مضمارها، وأمسكت بطرف ناصيتها وستجعل منها قاعدة انطلاق نحو أهداف كبيرة تسعى إلى تحقيقها مستندة إلى قراءة دقيقة لمصالح شركائها وخصومها على حد سواء، ولربما السمة البارزة التي طبعت سياسة روسيا في عهد بوتين تتلخص بالابتعاد عن فرض مشاريع سياسية أو آيديولوجية، بل انتهجت ومارست سياسة براغماتية متقنة في كثير من ساحات الصراع السياسي والميداني دون التخلي عن حلفائها ومناطق نفوذها.
حضور موسكو على مسرح الأحداث في ليبيا سيضفي نوعاً من الهدوء ويخفض منسوب التوتر الذي أحدثه المشروع الأردوغاني في عموم المنطقة، لأنه يشكل عامل توازن بموازاة النزعة التركية، ويجد قبولا لدى العواصم العربية والغربية المعنية مباشرة بواقع ومستقبل ليبيا ومجريات الأحداث فيها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة