الحرب بالإنابة.. لماذا تسعى تركيا لـ"سورنة" الحالة الليبية؟
تقارير الصراعات الدولية تشير إلى أن تركيا كانت أحد الفاعلين الخارجين على الساحة الليبية منذ بدايات الصراع وعبر مراحله المختلفة.
على عكس إيران التي تدعم المليشيات في الصراعات الإقليمية والتي تتطوع بدورها للعب دور الحرب بالوكالة، فإن تركيا تخوض الحروب بالإنابة لصالح المليشيات في مناطق الصراعات لاسيما ليبيا مؤخراً، فتحت وطأة التراجع الميداني الذي شهدته مليشيات طرابلس المنضوية تحت راية الوفاق في مواجهة زحف الجيش الوطني على العاصمة لدى إطلاقة معركة الكرامة مطلع أبريل/نيسان الماضي.
انخرطت أنقرة بشكل مباشر في المعارك، ومن المتصور أن الخطة التركية لا تعتمد فقط على الحيلولة دون وصول الجيش الوطني إلى العاصمة واستعادتها من قبضة المليشيات التي تهيمن على المجال العام ومقدرات البلاد التي تدار عبر مؤسسات طرابلس، وإنما تعمل على استنساخ نموذج الصراع السوري خاصة في "إدلب" من خلال تعزيز أدوات الفوضى عبر أدوات مختلفة.
وبخلاف الدعم العسكري والاستخباري المباشر لمليشيات طرابلس تسعى تركيا إلى نقل مجموعات الإرهابيين من "إدلب" إلى ليبيا، وذلك بعد أن نجح الجيش الوطني في فرض مظاهر الأمن والنظام على نحو 90% من مساحة البلاد قبيل إطلاق معركة طرابلس.
أدوات الانخراط التركي في ليبيا
تشير تقارير الصراعات الدولية إلى أن تركيا كانت أحد الفاعلين الخارجين على الساحة الليبية منذ بدايات الصراع الليبي وعبر مراحله الانتقالية المختلفة، وتمثل حضور ليبيا في عدد من المؤشرات منها على سبيل المثال:
الإغراق:
كانت الأسلحة التركية تتدفق إلى ليبيا منذ بداية اندلاع الصراع على اعتبار أن تركيا أحد روافد الأسلحة الصغيرة، وعلى الرغم من القرارات الأممية وتشكيل لجنة مراقبة لحظر الأسلحة في ليبيا، فإن الحكومة التركية كغيرها من العديد من الحكومات لم تتخذ أي إجراءات للحد من هذه التدفقات.
وفي مرحلة تالية مع تحولات الصراع من مرحلة إسقاط النظام إلى مرحلة الصراع بين القوى المسلحة، وبحسب تقارير أوروبية رسمية، ومنها تقارير المجلس الأوروبي للشؤون الخارجية (ECFR)، رجحت أن عمليات تدفق الأسلحة من تركيا إلى ليبيا خلال الفترة السابقة لإطلاق عملية "طوفان الكرامة" كان يعتمد على دور تركيا اللوجيستي في تسهيل صفقات السلاح لكارتل (تجمع) المليشيات التي يتخذ قادتها من إسطنبول مقرا لهم وشحنها إلى المليشيات في ليبيا عبر الموانئ والسفن التركية، وكان يتم تجميع تلك الشحنات من مختلف دول أوروبا الشرقية لاسيما دول الاتحاد السوفيتي السابقة وتركيا، وهو ما دعمته أيضا تقارير مجموعة الأسلحة الصغيرة في جنيف التي تقطع بأن الأسلحة التركية "الخفيفة والمتوسطة" كانت الأكثر انتشاراً لدى الجماعات المسلحة الليبية والأكثر رواجا بشكل عام في ليبيا في مرحلة الفوضى التي شهدتها البلاد في أعقاب سقوط نظام القذافي.
التسلح النوعي للمليشيات:
يرتبط بالمرحلة الحالية الخاصة بمساعي تركيا إحباط عملية تقدم الجيش الوطني نحو العاصمة، فحسب تقرير "Libya’s global civil war" الصادر عن المجلس الأوروبي فإن حكومة أردوغان اتخذت إجراءات أكثر قوة لمعارضة تقدم الجيش الوطني إلى طرابلس، مشيرة إلى تصريح أردوغان الذي قال فيه "تركيا ستحشد كل الموارد المتاحة لإحباط أولئك الذين يريدون تحويل ليبيا إلى سوريا جديدة".
هذا التصريح ينطوي على تناقض واضح في ضوء الدور التركي في ليبيا في إشعال الصراع، وهو ما يعكسه الواقع الميداني في ليبيا، حيث بدأت أولى تلك الخطوات مع زيارة قام بها وزير داخلية الوفاق فتحي باشاغا إلى إسطنبول لمناقشة التعاون الدفاعي بين ليبيا وتركيا وهو الأمر ذاته الذي جرى بحثه في لقاء السراج بأرودغان قبل أسابيع.
وفي حين رصدت تقارير استخبارات أخرى أن الاجتماع تضمن شحن صفقات تسلح نوعية، خاصة بعد أن خسرت مليشيات الوفاق القدر الأكبر من شحنات الأسلحة التي تم إمدادها بها بالتزامن مع إطلاق معركة الكرامة، حيث كشف قائد مليشيا "لواء الصمود" صلاح بادي في 21 أبريل/نيسان الماضي عن وصول شحنة أسلحة تركية على متن السفينة "أمازون" ما سيكون له أثر في تغير الموازين في المعركة على حد قوله، وشملت تلك الشحنة 40 ناقلة مدرعة من طراز "كيربي" إلى جانب عدد غير محدد من الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات وبنادق قنص ورشاشات، وبخلاف الشحنات السابقة التي كان يتم تجميعها من مختلف البلدان الأوروبية فإن الأسلحة التي تورد حاليا تركية المنشأ ويعود أغلبها إلى شركة "BMC" التركية–القطرية .
في نهاية مايو/أيار بدأت تظهر أسلحة نوعية تركية أخرى لدعم المليشيات، حيث أعلن عن وصول طائرة شحن تركية من طراز (C 130) على متنها فريق خبراء من الأتراك مع غرفة عمليات متكاملة إلى مطار مصراتة، كما جرى الكشف عن وصول طائرة تركية أخرى من طراز "انتينوف" تابعة لشركة أوكرانية قادمة من أنقرة أيضا وعلى متنها طائرات بدون طيار تم تجميعها وتسليحها في مصراته، وتم استخدمها على الفور فى مهام تجسسية لاستكشاف ورصد طبيعة الانتشار والتمركزات العسكرية للجيش الوطني الليبي.
وفي أعقاب لقاء السراج وأردوغان رصد موقع "Flight radar” المتخصص في الرصد الجوي، وصول طائرة شحن أوكرانية إلى طرابلس قادمة من مطار أنقرة إلى غرب ليبيا بعد يومين من لقاء السراج وأرودغان، ورجحت العديد من التقارير أن الطائرة –الثانية من نوعها في غضون شهرين تقريبا- تحمل شحنات أسلحة وذخائر تركية، وربما شحنة الطائرات دون طيار التي تم الاتفاق عليها خلال لقاء إسطنبول.
وبحسب موقع "Africa intelligence" الاستخباري، في تقرير له بعنوان "Sarraj visits Turkey to seek help from Erdogan" فإن السراج طلب توريد 8 طائرات دون طيار تركية جديدة على دفعتين، وذلك بعد أن خسر 3 من 4 طائرات كدفعة أولى سبق شحنها إلى ليبيا، وتعهدت تركيا بتقديمها بالفعل، بالإضافة إلى طلب دعم بالأسلحة الأرضية وطلب وحدة تركية عسكرية على الأرض الليبية لحماية العاصمة طرابلس.
الدور الاستخباري:
وفقا لأغلب التقارير التي رصدت الأهداف التي هاجمها الجيش الوطني في مرحلة ما بعد "عملية غريان" كان استهداف وحدة عمليات تركية لتسيير الطائرات دون طيار في مطار معتيقية، ومن المرجح أيضا أن عناصر الاستخبارات التركية قدمت دعما لوجيستيا سهّل لتلك المليشيات الهجوم على مواقع انتشار الجيش في غريان، إضافة إلى عامل شراء ولاءات بعض المليشيات التي كانت مواقفها متأرجحة بين طرفي المعركة، وهو الأمر الذي أثاره العديد من التقارير المحلية الليبية، التي اتفق بعضها على أن غريان لم تسقط نتيجة مواجهة عسكرية وإنما نتيجة "خيانة الثقة" التي جرى التعهد بها قبيل إطلاق عملية "طوفان الكرامة".
كما أشارت تلك التقارير إلى أن أموال الإخوان وحكومة الوفاق هي من جندت المليشيات والعصابات، وأغرت الشباب على الانتفاض ضد الغرفة التابعة للجيش وبالتالي كان لزامًا الانسحاب منها.
نقل الجماعات الإرهابية:
أمر يجمع عليه أيضا العديد من التقارير المحلية الليبية خاصة الصادرة عن الجيش الوطني، حيث أشارت تلك التقارير إلى أن تركيا نقلت مجموعات إرهابية من إدلب في سوريا إلى ليبيا، وهو ما ألمح إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دون الإشارة الصريحة إلى تركيا في حديثه في روما قبل لقاء أردوغان والسراج بيوم واحد، وكرر بوتين تحذيره مجددا من خطورة تدفق المسلحين من إدلب إلى ليبيا.
في أعقاب تحذيرات بوتين، كشف تحقيق لشبكة "سكاي نيوز" عن وقوف أمير الجماعة الليبية المقاتلة المرتبطة بتنظيم القاعدة، عبدالحكيم بلحاج، على شبكة نقل مجموعات من الإرهابيين من سوريا إلى ليبيا عبر تركيا، كما أن شركة "الأجنحة" الليبية التي أسسها بلحاج في تركيا، ضمن شركات غسيل ونقل وتهريب أموال ليبية واسعة النطاق إلى تركيا، قامت بتنفيذ العديد من الرحلات في إطار تنفيذ تلك المهمة.
كما كشف في 20 مايو/أيار 2019، أحد ضباط العمليات في البحرية الليبية العقيد أبوبكر البدري عن أن الباخرة التركية "أمازون" التي رست قبل ذلك التاريخ بأيام في ميناء طرابلس، كانت تحمل أعدادا كبيرة من الإرهابيين، بمن فيهم عناصر تنظيم "داعش" الإرهابي.
كذلك لم يكن من قبيل المصادفة أيضا إعادة تموضع داعش في ليبيا مرة أخرى في الجنوب الذي سبق تحريره من تلك المليشيات، قبل إطلاق عملية "طوفان الكرامة"، ففي 6 يوليو/تموز الجاري أصدر التنظيم شريطا مصورا تمحور حول "تجديد البيعة لزعيم التنظيم أبوبكر البغدادي".
وعلى الرغم من الخلافات الجذرية الأيديولوجية بين داعش ومليشيات طرابلس فإنه من المتصور أن ظهور داعش يدعم دور تلك المليشيات، وهو ما اتضح بالفعل في مضمون الفيديو الدعائي للتنظيم الذي ركز على العداء للجيش الوطني واستعداده لشن هجمات ضده، ومن المتصور أن إتاحة بيئة من الفوضى لتمدد "داعش" في ظل إشعال الصراع على طرابلس يصب تكتيكيًّا في صالح تركيا وحلفائها في ليبيا لاعتبارات المصلحة المشتركة في استنزاف الجيش ومحاولة فتح جبهات جديدة للمعارك تجمع بين الطرفين.
أهداف الدور التركي
تسعى تركيا إلى سحب معركة طرابلس إلى دائرة الصراعات الإقليمية، ونقل المعركة من كونها معركة داخلية على أرضية وطنية يستهدف فيها الجيش استكمال معركة تطهير البلاد من المليشيات المسلحة والإرهابية، وفرض مظاهر القوة والسيطرة التي يمكن أن تشكل رافعة لإعادة بناء الدولة إلى معركة ذات طابع إقليمي من منطق مراعاة بعد المصلحة التركية فقط، وهو ما يمكن رصده في عدة مؤشرات أيضا على النحو التالي:
محاولة فرض تركيا أجندتها:
تسعى أنقرة إلى فرض أجندتها الخاصة على القوى الإقليمية ذات الصلة بالحالة الليبية، لكن من المرجح أن لجوءها إلى الدعم العلني لحكومة الوفاق بني على محاولاتها فرض مشروعها الخاص، وهو مشروع قائم بالأساس على فكرة تطور الصراع على كعكة الثروات الليبية كالنفط والغاز ومشروعات إعادة الإعمار، وهو ما ظهر في لقاء باليرمو نوفمبر الماضي.
خلال ذلك اللقاء انسحبت تركيا في ظل ميل القوى الأوروبية إلى تبني دور للمشير خلفية حفتر القائد العام للجيش في المشهد الليبي وذلك باعتباره الرجل القوي الذي تمكن من فرض مظاهر القوة والسيطرة في أغلب أنحاء البلاد، إلى جانب إعطاء طابع مؤسسي في التعاطي مع مؤسسات الدولة الليبية خاصة مؤسسة النفط التي وفر لها الحماية والتأمين دون التدخل في إدارة عملها أو التغول على عوائدها.
إفشال محاولات التسوية:
في الوقت الذي نقل فيه المبعوث الأممي غسان سلامة مبادرات بين حفتر والسراج بادرت تركيا إلى إفشال تلك المساعي من خلال دورها في دعم مليشيات الوفاق في التصعيد على مسرح العلميات لاسيما غريان، والطائرات دون طيار، ما كان من شأنه إهدار فرص التسوية التي كانت تلوح في الأفق على الجانبين.
محاولة "أقلمة" الصراع:
تسعى أنقرة إلى "أقلمة" الصراع الليبي على النمط السوري، من خلال استفزاز القوى الإقليمية التي يهمها في المرتبة الأولى تهدئة الصراع، والسعي إلى تسوية الأزمة، خاصة القوى التي تضررت من تفجر الصراع وطول أمده وتداعياته، وذلك من خلال انخراطها المباشر في الصراع، وبالتالي تدفع الأطراف الإقليمية الأخرى إلى الانخراط المقابل في الصراع أيضا.
المحصلة الأخيرة
تغامر تركيا بمحاولتها إشعال الصراع في ليبيا عبر استخدام نفس الأدوات التي تستخدمها في سوريا، حيث تلعب أنقرة دور مفجر للصراع لكنها لن تكون الطرف الذي يمكنه أن يلعب دورا في إطفاء الحرائق التي ستنشب بسببه لاحقا.
هذا الأمر الذي يجب أن يتلفت إليه الليبيون أنفسهم، ففي الأخير تسعى تركيا إلى تحقيق مصالحها الخاصة من خلال الاستثمار في الصراع وليس الاستقرار.
aXA6IDMuMTQ0LjkyLjE2NSA=
جزيرة ام اند امز