المجلس الأطلسي: أزمة قناة السويس محورية لمستقبل الاقتصاد العالمي
بضائع قيمتها تريليون دولار تمر عبر الممر الملاحي سنويا

رصدت المحادثة المسربة عبر تطبيق سيغنال بين فريق الأمن القومي التابع للإدارة الأمريكية تفاصيل تتعلق بتحرير طرق الشحن البحري بوصفه الهدف الأساسي من استهداف مليشيات الحوثي في اليمن.
ورغم إقرار المسؤولين في مناقشتهم أن نسبة قليلة جدا (3%) من تجارة الولايات المتحدة هي ما تمر عبر مسار قناة السويس المصرية بينما تمر 40% من التجارة الأوروبية عبرها، إلا أن المحادثة كشفت عن إصرار أمريكي على تحرير مسار السفن هناك بوصفه ممرا استراتيجيا أساسيا.
وفي ذلك السياق، قالت دراسة أعدها "المجلس الأطلسي"، وهو مركز بحثي مقره واشنطن، إن قناة السويس تعد نقطة بحرية وممرًا مائيًا حيويًا للتجارة العالمية وأمن الطاقة.
وأوردت الدراسة معلومات أساسية تتعلق بهذه القناة البحرية الممتدة لمسافة 193 كيلومترًا، وتربط بين البحر الأحمر والبحر المتوسط، وتؤدي دورًا محوريًا في الاقتصاد العالمي.
وقالت الدراسة إن القناة تستقطب حوالي 12% إلى 15% من إجمالي التجارة العالمية، وما يقارب 30% من حركة الحاويات العالمية، حيث تمر عبرها بضائع تتجاوز قيمتها تريليون دولار سنويًا.
كما تشمل حوالي 9% من تدفقات النفط البحرية العالمية، أي ما يعادل 9.2 مليون برميل يوميًا في أوائل عام 2023، بالإضافة إلى 8% من حجم الغاز الطبيعي المسال (LNG) عالميًا.
ويمر عبرها يوميًا 50 إلى 60 سفينة تحمل بضائع تُقدر قيمتها بين 3 مليارات و9 مليارات دولار. وتحقق إيرادات من الرسوم تشكل شريانًا اقتصاديًا رئيسيًا لمصر، حيث سجلت القناة 9.4 مليار دولار كرقم قياسي في 2022-2023.
وشددت الدراسة على أنه نظرًا لدورها الاستراتيجي كأسرع ممر بحري بين آسيا وأوروبا، فإن أي اضطراب في قناة السويس قد يؤدي إلى تأثيرات كبيرة على التجارة العالمية وأسواق الطاقة، كما حدث في السنوات الأخيرة.
لذا، فإن تقليل هذه الاضطرابات يعد مسؤولية دولية تتطلب دبلوماسية وتعاونًا لتعزيز أمن المنطقة، وتحسين قدرات القناة، وضمان تدفق التجارة وسلاسة سلاسل الإمداد، وتقليل تكاليف الشحن والتأمين، وتعزيز استقرار إمدادات الطاقة.
اضطرابات الحرب
وتأثرت مسارات العبور عبر قناة السويس مؤخرًا بالنزاعات المستمرة في الشرق الأوسط، بما في ذلك الهجمات في البحر الأحمر (2023-2024). ففي أواخر عام 2023، أدت الحرب في غزة إلى موجة من الهجمات على السفن التجارية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب من قبل مليشيات الحوثي المدعومة من إيران.
واعتبارًا من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، شن الحوثيون عشرات الهجمات الصاروخية وهجمات الطائرات المسيرة على السفن المتجهة إلى قناة السويس أو القادمة منها، واستولوا على سفينة شحن في جنوب البحر الأحمر.
وادعى الحوثيون أنهم استهدفوا أكثر من 130 سفينة في البحر الأحمر وخليج عدن بعد اندلاع الحرب في غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023. وخلال هذه الحملة، تعرضت عدة سفن تجارية لأضرار، كما أصيب أو قُتل بعض أفراد طواقمها بسبب الصواريخ المضادة للسفن.
وبحلول منتصف عام 2024، تصاعدت هذه الهجمات إلى حد إغراق سفينة تجارية واحدة على الأقل وإشعال النيران في سفن أخرى، مما أبرز بشكل كبير التهديد الذي يواجه حركة الشحن في المنطقة.
وكان التأثير الفوري لهذه الهجمات إعادة تقييم واسعة النطاق لسلامة الملاحة عبر قناة السويس. واستجابت العديد من شركات الشحن العالمية عن طريق تحويل أو تعليق مساراتها التي كانت تمر عبر البحر الأحمر وقناة السويس.
فبين منتصف ديسمبر/كانون الأول 2023 وأواخر الشهر، أعلنت ثلاث عشرة شركة شحن كبرى، من بينها أكبر شركات النقل البحري للحاويات في العالم، أنها ستعلق رحلاتها عبر البحر الأحمر أو إلى الموانئ الإسرائيلية إلى أجل غير مسمى.
تغير حركة السفن
وتضمنت هذه الاضطرابات شركة MSC (أكبر ناقل للحاويات في العالم) وغيرها، حيث صرحت بأنها ستتجنب مؤقتًا طريق قناة السويس بسبب المخاطر الأمنية. ووفقًا لهيئة قناة السويس (SCA)، فإنه بين 19 نوفمبر/تشرين الثاني ومنتصف ديسمبر/كانون الأول، قامت 55 سفينة بإعادة توجيه رحلاتها عبر رأس الرجاء الصالح بدلاً من استخدام قناة السويس، رغم أن أكثر من 2100 سفينة استمرت في العبور خلال نفس الفترة.
وأظهر هذا الوضع أن حركة الملاحة لم تتوقف تمامًا، ولكن عددًا متزايدًا من مالكي السفن فضلوا المسار الأطول والأكثر أمانًا حول أفريقيا، ما زاد التكاليف وزمن الرحلات، وفرض الحاجة إلى قدرات إضافية لتوفير الخدمات لهذا الطريق البديل.
وفي ذروة الأزمة، اختفت بعض أنواع السفن تقريبًا من القناة. فبحلول يونيو/حزيران 2024، انخفضت حركة سفن الشحن الجاف عبر قناة السويس بنحو 80% مقارنة بالعام السابق، حيث فضلت الشركات تجنب منطقة التوتر في البحر الأحمر عند نقل الحبوب وخام المعادن.
كما أثارت الأزمة قلق كبرى شركات الطاقة. ففي ديسمبر/كانون الأول 2023، أعلنت شركة BP العملاقة للنفط تعليق جميع رحلات ناقلاتها عبر البحر الأحمر حتى استقرار الوضع.
التأثير على التجارة العالمية والاقتصاد
وتسببت الاضطرابات الناجمة عن النزاع في تأثيرات اقتصادية فورية وواسعة النطاق على قناة السويس، خاصة على تدفقات التجارة وسلاسل التوريد. وأدت الهجمات على السفن وإعادة توجيهها في البحر الأحمر إلى إعاقة حركة الملاحة عبر القناة بشكل كبير في أواخر 2023 وأوائل 2024.
وفي الواقع، انخفض حجم التجارة عبر قناة السويس بنحو 50% خلال أول شهرين من عام 2024 مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. وبدلًا من استخدام القناة، سلكت عشرات السفن الطريق الطويل حول أفريقيا، ما أدى إلى زيادة حجم الشحن عبر رأس الرجاء الصالح بنسبة 74%، حيث اضطر المشغلون للبحث عن مسارات بديلة.
وأدى هذا التحويل إلى إضافة نحو 10 أيام أو أكثر إلى مدة الرحلات بين آسيا وأوروبا في المتوسط، مما أثر على سلاسل التوريد التي تعتمد على التسليم الفوري.
يشير هذا الانخفاض الحاد في حركة السفن عبر البحر الأحمر إلى خسارة كبيرة ومؤقتة في القدرة العالمية على الشحن، حيث أُجبرت نسبة كبيرة من أسطول الحاويات والسفن الضخمة على اتخاذ مسارات أطول.
عواقب فورية
أحد النتائج المباشرة للمسارات الأطول وتأخير القوافل البحرية كان الارتفاع الحاد في تكاليف النقل. حيث قدّر المحللون الصناعيون أن القدرة العالمية الفعالة للشحن انخفضت بحوالي 20% خلال الأزمة، نتيجة لقضاء السفن فترات أطول في الرحلات.
وأدى هذا النقص في القدرة الاستيعابية إلى ارتفاع أسعار الشحن على الطرق التجارية الرئيسية. فقد بدأت أسعار الشحن الفوري للحاويات بين آسيا وأوروبا، وهي طرق تعتمد بشكل كبير على قناة السويس، بالارتفاع، حيث اضطرت الشركات المشغلة إلى نشر المزيد من السفن للحفاظ على الجداول الزمنية، في وقت كان فيه توفر المساحات محدودًا.
كما عانت الموانئ البديلة، مثل جنوب أفريقيا وجنوب شرق آسيا، من ازدحام شديد نتيجة لتحول أنماط المرور البحري.
كل هذه العوامل زادت من تكاليف التشغيل لشركات الشحن، مما انعكس على المستوردين والمصدرين، وبالنهاية على المستهلكين.
أشارت دراسات صادرة عن صندوق النقد الدولي إلى أنه في حال استمرار هذه الاضطرابات، فقد تؤدي إلى زيادة التضخم في الاقتصادات المتأثرة، بسبب ارتفاع تكاليف الاستيراد وتأخير الشحن.
على سبيل المثال، واجه المستوردون الأوروبيون فترات انتظار أطول ورسومًا إضافية على الشحن في أواخر 2023، مما أربك عمليات إدارة المخزون والجداول الإنتاجية.
كما حدث ارتفاع هائل في تكاليف التأمين البحري للرحلات عبر البحر الأحمر وقناة السويس. حيث صنّفت شركات التأمين جزءًا كبيرًا من البحر الأحمر كمنطقة حرب عالية المخاطر، وفرضت أقساطًا إضافية على تأمين الهياكل والشحنات.
وارتفعت أقساط التأمين ضد مخاطر الحرب، والتي كانت سابقًا 0.05% إلى 0.1% من قيمة السفينة، إلى 1% إلى 2% لكل رحلة عبر قناة السويس بحلول أواخر 2023.
وكذلك، قفزت معدلات تأمين الشحنات عبر المنطقة، حيث ارتفعت تكلفة وثائق التأمين على البضائع من 0.6% إلى حوالي 2% من قيمة الشحنة بعد الهجمات.
هذه الزيادات تسببت في تكاليف تأمين إضافية بملايين الدولارات على السفن الكبيرة العابرة للقناة، مما جعل المسار عبر السويس غير مجدٍ ماليًا للعديد من السفن في ذروة النزاع.
دفع ذلك العديد من المشغلين إلى اختيار المسار الأطول حول إفريقيا، رغم التكاليف الزمنية الإضافية.
وحتى مطلع 2024، ظلت بعض شركات التأمين مترددة في تغطية الرحلات عبر البحر الأحمر، مما أجبر المشغلين على البحث عن تغطية متخصصة أو ضمانات حكومية.
والنتيجة النهائية كانت ارتفاعًا حادًا في تكاليف التشغيل لأي سفن استمرت في عبور القناة خلال النزاع، مما فاقم التأثير الاقتصادي للأزمة.
التوترات الجيوسياسية
ويمتد تأثير الاضطرابات الجيوسياسية في منطقة السويس إلى أسواق الطاقة، حيث تؤثر على أنماط التجارة العالمية.
تعد القناة وخطوط الأنابيب المرتبطة بها (مثل خط سوميد) ممرات رئيسية لصادرات النفط والغاز الطبيعي المسال من الشرق الأوسط إلى أوروبا. وأي اضطرابات في هذه المنطقة قد تؤدي إلى تقلبات في أسعار النفط.
على سبيل المثال، ساهمت هجمات البحر الأحمر أواخر 2023 في ارتفاع أسعار خام برنت، حيث قامت الأسواق بتسعير التأخيرات المحتملة في الإمدادات.
وخلال الأزمة الأخيرة، انخفضت حركة عبور النفط جنوبًا عبر السويس بنسبة 50%، حيث تراجعت من 7.9 مليون برميل يوميًا في 2023 إلى 3.9 مليون برميل يوميًا في 2024، بسبب إعادة توجيه أو تأجيل العديد من ناقلات النفط.
وتوقفت عمليًا جميع شحنات وقود الطائرات إلى أوروبا عبر السويس، حيث لم يعد سوى 2% فقط من الوقود المنقول بحرًا يستخدم القناة، مع لجوء الناقلات إلى الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح أو استخدام خطوط أنابيب بديلة.
مخاطر استراتيجية
هذا التغيير يعكس بعدا هاما وهو أن الصراعات المطولة تخلق مخاطر دائمة، حيث قد لا تعود بعض الشحنات إلى مسار قناة السويس حتى بعد استقرار الأوضاع، خاصة إذا استمرت مخاوف شركات التأمين والمُشغلين بشأن المخاطر. بالإضافة إلى ذلك، فإن إعادة توجيه السفن حول أفريقيا لها تكلفة بيئية كبيرة. فالمسافات الأطول تعني زيادة استهلاك الوقود وانبعاثات الكربون.
وتشير التقديرات إلى أن السفن المعاد توجيهها قطعت مسافات أطول بنسبة 50-60%، مما أدى إلى زيادة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنحو 40% لكل رحلة مقارنة بالعبور عبر قناة السويس، مما يعكس تأثيرًا بيئيًا إلى جانب التكلفة الاقتصادية.
aXA6IDMuMjAuMjMyLjE1NCA= جزيرة ام اند امز