بدأت في عهد عُمر بالمصابيح.. حكاية إضاءة المسجد الحرام
تمضي السنون تلو السنين وولاة أمور المسلمين يولون اهتماماً كبيراً وعناية فائقة بأعظم مسجد في الإسلام وأقدس بقعة على وجه الأرض.
دائماً ما كان المسجد الحرام يحظى بهذه المكانة الرفيعة؛ ومنذ بزوغ فجر الإسلام زاد الاهتمام كثيراً؛ نظراً لرفعة شأنه وعلو قدره في الدين الإسلامي وعند المسلمين قاطبة في شتى بقاع المعمورة.
وما فتئ المسجد الحرام يحظى باهتمام ملوك المملكة العربية السعودية منذ عهد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بل وأصبح لقب خادم الحرمين الشريفين لقباً يتشرف به ملوك السعودية.
وتجلت صور العناية ببيت الله الحرام في الاهتمام بكل جزء منه وتطويره حسب ما يتوافر من إمكانات في كل حقبة زمنية، ومن ذلك جانب الإضاءة.
بداية الحكاية
بدأت حكاية إضاءة المسجد الحرام في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب عندما كان المسجد الحرام لا يتجاوز صحن المطاف وحوله بيوت أهل مكة، وما بين هذه الدور من مساحة؛ فهي المداخل المؤدية للمسجد.
يقول مدير عام مركز تاريخ مكة المكرمة سابقاً، الدكتور فواز بن علي الدهاس: "عندما قدم الخليفة عمر بن الخطاب إلى مكة المكرمة في العام السابع عشر الهجري، بعد علمه بما تعرض له المسجد الحرام من خراب عقب مداهمة السيل له، أمر ببناء سور أو حائط حول صحن المطاف يحدد مساحته، ولم يكن هذا الحائط يرتفع بأكثر من قامة؛ وبذلك أصبح للمسجد الحرام خصوصية تفصله عن دور قريش، ووضع مصابيح تضيء في صحن المسجد".
وتروي كتب التاريخ بحسب الدكتور الدهاس، استخدام المسلمين أنواعاً من الإضاءة كالمصابيح والسرج والزيوت والشموع والقناديل التي تنوعت ما بين الذهب والفضة والنحاس؛ رغبةً في إضاءة ساحات المسجد الحرام سواءً للصلاة أم مجالس الذكر أم لأداء العمرة، وكانت تستخدم ما يعرف بالفتيل في وسط هذه القناديل، وذلك خلال العصر المملوكي وما تلاه من العصر العثماني.
وكانت هذه القناديل تجلب من بلاد الشام وبلاد الروم وغيرها، وكانت العواميد تقام حول المطاف وتعلق بها هذه القناديل، ثم استبدلت بها الحجارة، ومع تواتر السنين أصبحت من الحديد والنحاس المطلي باللون الأصفر.
عهد معاوية
وفي عهد معاوية بن أبي سفيان أضيء المسجد الحرام بالقناديل واستخدم الزيت وقوداً للإضاءة، وجعلت نفقته من بيت المال، ثم خُصص عمال يقومون بهذه المهمة.
ونالت إضاءة الحرم المكي في عهد الدولة العباسية عناية الخلفاء العباسيين، فأضيئت جنبات المسجد الحرام الأربع فضلاً عن صحن الطواف الذي ركزت الإضاءة فيه بشكل دائري لتغطي المطاف، وتم تعيين عمال لأداء هذه المهمة وخُصص مستودع بجوار المسجد الحرام لصيانة هذه القناديل، ومن نافلة القول إن تلكم الجهود كانت تتضاعف في شهري رمضان وذي الحجة لكثرة المصلين والمعتمرين والحجاج.
وامتد اهتمام العباسيين بالعناية بالمسعى فأنشئت أعمدة تعلق عليها هذه القناديل بين الصفا والمروة، واستمر الأمر كذلك خلال العصر المملوكي، وأصبحت هناك أسر معينة توارثت هذه المهنة، وخصصت أوقات لهذه الخدمة تحت إشراف شيخ الوقادين.
مهمات الوقادين
وكان من أهم مهمات الوقادين إخراج الشمع والمصابيح والقناديل وتجهيزها وتنظيفها وتلميعها وتعبئتها بالزيت؛ استعداداً لغروب ذلك اليوم، ويتم توزيع الإضاءة في نواحي المسجد.
واستمرت إضاءة المسجد الحرام بالوسائل التقليدية حتى سنة 1339هـ، حيث استبدلت بمصابيح كهربائية على نطاق ضيق، حتى كان عام 1347هـ، حيث أمر الملك عبدالعزيز بتجديد مصابيح المسجد الحرام وزيادتها إلى ألف مصباح، وفي عام 1349هـ وجَّه الملك عبدالعزيز بشراء ماكينة لتوليد الطاقة الكهربائية.
وفي عام 1373هـ تم إدخال الكهرباء بصفة رسمية إلى مكة المكرمة وأنير بها المسجد الحرام، وأسندت المهمة إلى الشركة السعودية للكهرباء.
التوسعة الأولى
ونظراً لما شهده المسجد الحرام من توسعة عرفت في التاريخ بالتوسعة الأولى، أمر بها الملك عبدالعزيز، ونفذت في عهد الملك سعود ثم فيصل أنشئت في 1405هـ شبكة كهربائية متطورة، تتكون من 4 محطات في منطقة باب الملك عبدالعزيز وباب العمرة وباب "الفتح" وباب الصفا؛ كان الهدف منها تفادي انقطاع التيار الكهربائي عن المسجد بجوانبه وأدواره المختلفة.
وفي عام 1412هـ الموافق 1992م تم تحديث هذه الشبكة لتواكب التطور العمراني الذي يشهده المسجد الحرام، وفي العام 1413هـ وبعد إنجاز التوسعة السعودية الثانية تم إنشاء محطتي تغذية رئيسة لتواكب هذه التوسعة مع إنشاء محطتين لتغذية المعدات الميكانيكية؛ لتعمل على تكييف الهواء في سائر أنحاء التوسعة.
واستمرارًا لهذا النهج، شهدت إضاءة الحرم المكي في العصر الحالي نقلة نوعية استخدمت فيها التقنية الحديثة، حيث تميزت الثريات والقناديل والنجف بطابعها الإسلامي الفريد، التي صنعت خصيصاً للبيت العتيق بأشكال وأحجام مختلفة وبأعلى المواصفات؛ لتضفي لمسة جمالية تضيء أرجاء المسجد الحرام وساحاته وسطحه ومناراته والتوسعة السعودية.
ويوجد في المسجد الحرام أكثر من 500 نجفة مختلفة الأشكال والأحجام، وتتميز الثريات والفوانيس والمصابيح بتشكيل زخرفي مستوحى من الطراز الإسلامي، حيث رسم على عددٍ منها الآيات القرآنية بخطوط فنية وزخرفية غاية في الروعة.
120 ألف وحدة إنارة
ويبلغ عدد وحدات الإنارة في أرجاء المسجد الحرام وساحاته والسطح والمنارات والتوسعة أكثر من 120 ألف وحدة إنارة، تجسد في مجملها حجم العناية والرعاية التي يحظى بها الحرمان الشريفان.
وتتوزّع وحدات الإنارة في أرجاء المسجد الحرام حيث ترتبط بمحطة خاصة للتحكّم فيها من خلال تزويد البيت العتيق بأحدث التقنيات العالمية المتوافرة من الإنارة والتحكّم بها وبكثافتها، كما يوجد أكثر من ألف وحدة إنارة مثبتة على الأعمدة والأسوار الخارجية المحيطة.
وتعمل هذه الثريات والفوانيس والمصابيح بنظام إنارة مرشدة للطاقة LED؛ بهدف رفع كفاءة الإضاءة وتوفير الطاقة، مع تصميمها الفريد المتسق مع الطابع المعماري للمسجد الحرام والمصنوعة من الإستانل ستيل والمطلية بالذهب، حيث يبلغ سمكها 2 ميكرون، وتزن الثريا الواحدة 280 كيلوجراماً، مع طبقة حماية من اللاكر ذات المقاومة العالية للخدوش والصدمات.
كما يتميز نظام التعليق المخصص لها بديناميكية ومرونة عاليتين من نوع "دوبلكس" المقاومة للتيارات الهوائية والتغيرات المناخية، طبقًا لأفضل المواصفات الفنية والممارسات الهندسية المتبعة في هذا المجال، ووفقاً لنظام كود البناء السعودي.
وتعمل الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الصيانة اللازمة لإنارة المسجد الحرام بشكل دوري، تشمل أعمال التلميع والتأكد من عمل الكشافات وتوصيلاتها بشكل دائم ومستمر.
كما تحرص فرق الصيانة على الكشافات الخاصة بفوانيس حجر إسماعيل، حيث يُغير الكشاف بالكامل في حالة تعطله، كما يُجدد دهان تلك الفوانيس من خلال فك أجزائها وإزالة الطلاء القديم ومعالجته، ومن ثم صقل الفانوس بواسطة جهة مختصة في مجال الأعمال المعدنية وبمواد وأجهزة مخصصة في عملية إعادة تأهيل وصيانة المعادن، ليتم بعدها طلاء الفانوس بماء الذهب بسماكة 4 ميكرون، كما تقوم الإدارة العامة للتشغيل والصيانة بالرئاسة بعمل صيانة شهرية لثريات حجر إسماعيل الثلاث، التي صممت على شكل (فانوس) قائم على قاعدة عريضة مزخرفة على هيئة أقواس وخلفية من الزجاج تسمح بنفاذ الضوء، منتهياً برأس مدبب على شكل هلال وفي كل فانوس كشاف ليد بقوة 40 واطاً تضيء باللون الأخضر.