يبدو أن "عالم ما بعد الجائحة" قد هلّ على الدنيا وعلى منطقتنا أيضا.
ودلالة ذلك أنه تحت هذا العنوان انعقد مؤتمر كبير نظمه مركز الإمارات للسياسات خلال الفترة من 13 إلى 15 نوفمبر الجاري، لكي يقدم "قائمة أعمال للعالم العربي" خلال هذه المرحلة الجديدة.
المبادرة كانت إعلانا عما جرى الحديث عنه خلال العامين الماضيين تقريبا عن "المعتاد الجديد"، أي استئناف الحياة مرة أخرى اقتصاديا واجتماعيا مع الاحتراز، كما نفعل مع الأمراض الأخرى أصبح هو الغالب على التفكير المعاصر.
فحينما حلّت جائحة كورونا فإن الحديث عنه ذاع دونما معرفة بشكله وفصله وكيف يؤثر على حياتنا، وكان الرأي هنا هو أن الأزمات الكبرى كاشفة أكثر منها منشئة للأوضاع الجديدة.
والواقع هو أن العالم لا يتوقف عن التغيير بما هو قليل وما هو كثير، وعندما عمّ البلاء اختلط القليل بالكثير، وكان هذا وذاك يتم بأشكال كمية، يمكن الآن القول بأنها باتت نوعية تأخذ شكلا معتادا جديدا.
استقر الناس على التعايش مع أوضاع جديدة، ولكن التلاميذ سوف يعودون إلى المدارس، والعمال إلى المصانع، والموظفون إلى أعمالهم في الحكومة أو القطاع الخاص.
هناك صعوبة بالطبع فيما استقر عليه الناس في المعتاد الجديد/القديم، وهو أن يلتقي الناس، وأن يقوموا بأعمالهم وجها لوجه وليس عبر الأدوات الافتراضية.
شركة "آبل" وجدت صعوبة في عودة موظفيها مرة أخرى بعد أن غادروا مساكنهم إلى جهات أخرى "متباعدة"، ولم تكن هناك مشكلة في العمل القائم على الأساليب الافتراضية من الوجود في مواقع أخرى بعيدة، حيث لم يعد هناك فارق في العمل مهما بعدت المسافة.
الأمر لا كان سهلا، ولا كان في مصلحة العمل، وآن للطيور أن تعود إلى أعشاشها، ولكن ذلك سوف يحدث بعد اتخاذ الإجراءات، واتباع الأساليب المرعية في زمن الوباء.. لم يعد العالم كما كان تماما، وإنما بات متغيرا في مكانه!
ليس معنى ذلك أن العالم لم يختلف، وعندما يجري الحديث عن تغيره فإن ذلك يعني الحديث عن "أجندة" أو "قائمة أعمال" جديدة، بعضها يتصل بموضوعات جديدة، وبعضها الآخر لديه موضوعات قديمة، ولكن آن الأوان لإعادة النظر فيها، والنظر إليها من زوايا ونقاط انطلاق جديدة.
وفي جدول أعمال المؤتمر المشار إليه، والذي حضره وفرة من الخبراء من شرق العالم وغربه بالإضافة إلى العرب ودول الشرق الأوسط، كان التركيز أولا على قضايا عالمية، لم يعد ممكنا تجاهلها أو عدم الاهتمام بها بعد أن باتت "أجندة" عالمية، وبالتالي سوف تمس منطقتنا أردنا أو لم نُرد.
البداية شملت "التكنولوجيا والأمن السيبراني" وقد باتت جزءا مهما من الأمن الدولي ومحددا رئيسيا من مستقبل السياسة الدولية، وقضية التهديدات العالمية الناشئة عن الأوبئة والمناخ.
لم يعد ممكنا للعالم كله، وبالتالي للعالم العربي، تجاهل ما جرى من وباء، وما لا يستبعد في المستقبل من أوبئة.
ما أفضت إليه "الجائحة" والتطور التكنولوجي المعاصر سلط الضوء على عملية "الرقمنة" الجارية والمؤثرة على الاقتصاد العالمي، وبينما لا تزال تقفز قفزات واسعة تمتزج فيها تكنولوجيا المعلومات مع التكنولوجيا الحيوية، فإن بعضا منها جرى تجريبه وتطبيقه علي مجالات واسعة.
ثانيا، وبينما القضايا السابقة منبثقة عن "عولمة" العالم بحلوه ومُرّه، فإن النظام الدولي يشهد محورين لا يمكن تجاوزهما من حيث ما يطرح فيه من توتر وتعاون وتنافس أيضا، المحور الأول والأكثر ذيوعا يركز على العلاقات الأمريكية الصينية، والثاني الذي يستعيد أبعادا حادة من الماضي عن العلاقات الأوروبية الروسية، التي لا يمكنها الهروب، لا من الصين ولا من الولايات المتحدة الأمريكية.
النقاش شكّل اعترافا بمكانة الدولة العظمى للصين، ولكنه في الوقت نفسه لا يمكن الانتقاص من مكانة روسيا، التي لديها من الأسلحة النووية ما يكفي لتدمير الكوكب مرات عدة بسكانه ومدنه.
ثالثا، البداية بالقضايا العالمية، ثم تناول تركيبة النظام الدولي الرئيسي، فإن الوضع الإقليمي بات جاهزا للنقاش في زاويته الأولى، التي تنظر إلى البيئة الإقليمية الشرق أوسطية من خلال التطورات في أفغانستان، وعما إذا كانت تمثل نهاية الأزمة من خلال "الخروج الأمريكي"، أو أن فيها سوف تكون البداية، التي تعزز الإرهاب، وتعطي فرصة للنفوذ الصيني، حيث لم تعد بكين تعتمد على الولايات المتحدة في مقاومة الإرهاب في أفغانستان، وإنما سوف تسعى لكي تقيم تعاونا أو تحالفا أو ائتلافا بينها وبين باكستان وروسيا وإيران لكي لا تكون أفغانستان دولة مضيفة للإرهاب.
والحقيقة هي أن الانسحاب الأمريكي خلق وضعا جديدا جوهره هو معتاد جديد للتعايش مع الإرهاب، كما هي الحال مع الأشكال الكبيرة للجريمة المنظمة، بحيث لا تشل قدرة الدول على التقدم.
ويحدث ذلك بالطبع بحيث تتبع الإجراءات الاحترازية كافة من المتابعة المخابراتية، وحماية المطارات والطائرات من الخطر، واختراع التكنولوجيات، التي تكشف الأسلحة والمتفجرات، واتباع البشر قواعد الكشف والشفافية التي يتيحها الذكاء الاصطناعي.
رابعا، وصلت الندوة إلى الإقليم العربي من خلال تناول ثلاثة أمور: الاتفاق الإبراهيمي ومستقبل السلام في الشرق الأوسط، والخيارات المطروحة على العالم العربي، الذي بات في "مفترق الطرق" ما بين توجه قائم على الصراع والمنافسة الخشنة، وتوجه آخر يقوم على تهدئة الصراعات والتعاون الإقليمي، والسلام داخل الدول العربية التي تعاني أزمات وحروبا أهلية.
ما بين هذا التوجه وذاك توجد خيارات الدول العربية، التي عاشت فترة طويلة من الاضطراب والقلق خلال عقد كامل مما سمي "الربيع العربي"، وما جاء فيه من صعود للإسلام السياسي انتهى إلى أفول بدأ بسقوط الإخوان المسلمين في مصر وانتهى مع لفظ الشعب المغربي لهم في الانتخابات.
الندوة فحصت كل ذلك بتفصيل شديد، وعند ذلك تولدت قائمة أعمال عربية تستحق البحث والتمحيص من قبل المسؤولين عن المصير العربي خلال السنوات القادمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة