عينٌ على الاقتصاد وأخرى على السياسة.. هكذا بدا نهج الدولة السورية جليا بعد استعادة غالبية الأراضي، التي خرجت عن سيطرتها بسبب الأحداث.
أزمة مركّبة تلك التي اجتاحت سوريا خلال عشرة أعوام خلت.. أمنيّة وجودية دوافعها سياسية كما أهدافها، وأخرى اقتصادية عبر سياقات ثلاثة، أولها العقوبات والحصار، وثانيها تدمير غالبية مقدراتها الإنتاجية، صناعية وزراعية، أما ثالثها فطال النشاط التجاري، سواء بين مدنها بسبب التدهور الأمني، أو مع العالم الخارجي.
لم يكن أمام الحكومة السورية من خيارات خلال مجريات الأزمة وتبعاتها إلا اللجوء إلى سياسات تتماشى مع ما هو متوفر ومتاح، وقرارات استثنائية وأخرى ظرفية تعالج بعض مظاهر التحدي القاهرة على المستوى الاقتصادي، الذي ترافق مع الخطر الأمني والصعوبات السياسية.
تمكنت سوريا عبر هذه السياسة من توفير الحد الأدنى من احتياجات المجتمع السوري، وركزت على الضروريات منها، وأوقفت تدهور قيمة العملة المحلية دون أن تتراجع عن دورها الاجتماعي وسياستها التدخلية لدعم سلع تشكّل عصب الحياة للإنسان، الذي فقد كثيرا من المكاسب الطبيعية، التي تنعّم بها قبل الأحداث.
لا يستقيم الحديث عن بوادر استفاقة سوريا على الصعيدين الاقتصادي والسياسي دون مقارنة بسيطة بين ما كان عليه الواقع قبل الأزمة وما صارت عليه الحال لاحقا.
على الصعيد الاقتصادي، خرجت كثير من مقومات اقتصادها عن سيطرتها، إما كليا أو جزئيا، واستنزفت الحرب ودمرت أكثر من ثلثي مواردها، فتراجع الناتج المحلي، الذي كان من بين أكثر اقتصادات الدول النامية تنوعا، إلى أقل من 20 مليار دولار عام 2019، بعدما زاد على 60 مليار دولار عام 2010، حسب معطيات الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي والمكتب المركزي السوري للإحصاء.
مع بقاء الأزمة وتشديد العقوبات الغربية وتبعات فيروس كورونا والجفاف وخروج الثروات الأساسية عن سيطرة الدولة السورية، استمر الوضع في التراجع حتى وصل التضخم إلى نسب مرتفعة جدا، وتدهور سعر الليرة السورية، حيث وصل إلى نحو 5000 ليرة أمام دولار أمريكي واحد، في مقابل أقل من 50 ليرة قبل الأزمة للدولار الواحد.
وفي الوقت الذي كان فيه معدل الأجر الشهري يتراوح بين 300 إلى 600 دولار حتى بداية عام 2011، تراجع إلى حدود تتراوح بين 20 و50 دولارا حاليا.
أما في السياق السياسي، فتقلّصت العلاقات الخارجية للدولة السورية على الساحات العربية والإقليمية والدولية إلى حدودها الدنيا، فلجأت الدبلوماسية السورية إلى خيارين، الأول اعتمد المحافظة على المتاح والممكن من علاقاتها مع بعض الدول الكبرى، مثل الصين وروسيا، رغبةً في حمايتها ودرءًا لمخاطر كبيرة كانت محدقة بها، في حين تبنّى الخيار الثاني سياسة تفعيل واستثمار تلك العلاقات مع مراعاة وتقدير مصالح الأطراف الأخرى.
في نهجها على درب التعافي، شكّلت سوريا فِرَقا اقتصادية، مهمتها ضخّ الروح في أوصال أكبر قطاعات الإنتاج الصناعي في دمشق وحلب وحمص، فكان تأهيل مدينة "الشيخ نجار" الصناعية عنوانا لعودة ما يُعرف بـ"العاصمة الاقتصادية لسوريا"، أي حلب، إلى لعب دورها في هذا القطاع.
العقبات والموانع كثيرة ولا تُحصى.. الانطلاقة لا تزال في الحدود الدنيا، مقارنة بما كانت عليه سوريا قبل عقد من الزمن.. الحديث عن مدينة "الشيخ نجار" هو حديث عن ملامح دوران عجلة الإنتاج الصناعي ولو بشكل متواضع ونسبي.
في دمشق لم يكن المشهد مغايرا كما هي الحال أيضا في مدينة حمص.. إطلاق عجلة إنتاج مدينة "عدرا" الصناعية على تخوم العاصمة، ومدينة حسياء الصناعية، جوار حمص، وفق نظرية "الاستثمار في المتاح" كان هو الهدف.
القطاع الزراعي لم يغب عن الاهتمام والدعم أيضا، فطرأ تحسنٌ ملحوظ على إنتاجه وعائديته خلال السنتين الماضيتين، إضافة إلى إعادة تأهيل بعض الصناعات الخفيفة في مجالات الأغذية والأدوية في عدد من المدن.
المحور السياسي اتسم بالاستقرار دون اضطرابات مع الدول، التي لم تقطع علاقاتها بدمشق.. تم البناء على ما هو متاح منها، وصولا إلى الانفراجة الراهنة عبر النافذة الإماراتية على المستويين العربي والدولي.. اتسعت دائرة العلاقات السورية عربيا ودوليا.. صار الحديث عن عودة سوريا إلى الحاضنة العربية وعن دورها وتأثيرها في المحافل معلنا.
إنها بداية الغيث بعد سنوات عِجاف.. فلقد ظل الاقتصاد دائما حاملا للسياسة، التي تهتدي به.. إنهما ركيزتان أساسيتان في بناء الدول والمجتمعات وصعودهما، مثلما هما سببان في التراجع والسقوط عندما يفقد أحدهما القدرة والإمكانية على تدوير عجلات الآخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة