"أزبكية" ناصر عراق.. الانتصار للتمدن والحضارة
تنتصر "الأزبكية" في فكرتها العامة إلى الدولة المدنية وإعلاء قيم الحرية والديمقراطية والمواطنة والمساواة واستدعت الماضي لتقرأ الحاضر
ناصر عراق، روائي وصحفي وناقد تشكيلي مصري، خاض رحلة عمل طويلة بين أروقة المؤسسات الثقافية والصحفية في مصر والعالم العربي، وبخاصة في دول الخليج وفي القلب منها دولة الإمارات العربية، وعلى تعدد النشاطات والمهام التي تخللت مسيرته العملية، فإن الكتابة الروائية استحوذت على النصيب الكبير من انشغالاته في السنوات العشر الأخيرة، خصوصًا بعد أن وصلت روايته "العاطل" إلى اللائحة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) 2012.
وربما كان وصول "العاطل" إلى اللائحة القصيرة نقطة فارقة في نتاج ناصر عراق الروائي، فمنذ صدور روايته الأولى "أزمنة من غبار" عن دار الهلال المصرية 2006، مرورا بروايته الثانية "من فرط الغرام" 2008 التي سجل من خلالها تجربة العمل في الصحافة الخليجية، واختار لها فضاء مكانيا رمزيا لدبي التي يعمل فيها، ويعرض لعدد من النماذج الدالة من جنسيات عربية مختلفة، وصولا إلى محطته الروائية الثالثة "العاطل" (صدرت عن الدار المصرية اللبنانية 2011) أمضى ناصر عراق قرابة السنوات الست وهو يرسم لنفسه، بدأب وتصميم، مسارا روائيا مميزا ويختط لنفسه طريقا وموضعا مغايرا في خارطة المشهد الروائي العربي المعاصر.
حمل وصول روايته "العاطل" للقائمة القصيرة من جائزة البوكر اعترافًا مهمًّا وصادقًا بأهمية هذا العمل الروائي الذي يصوِّر العالم الكابوسي لمواطن من عامة الشعب المصري يعاني القهر والتهميش على أكثر من مستوى، ما يؤدي إلى وقوعه في دائرة العجز الحسي للزمن، ومن ثم العجز الكامل، ثم يصبح هذا العجز معادلًا للفشل وعدم التحقق في مجالات أخرى، كالعمل والصداقات والتحقق الأدبي.
خلال الفترة من 2011 وحتى 2016، أصدر عراق 4 روايات بمعدل رواية كل عام تقريبا؛ الروايات الأربع على الترتيب هي: "تاج الهدهد"، "نساء القاهرة دبي"، "الأزبكية"، وأخيرا "الكومبارس" الصادرة قبل أشهر قليلة عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة.
"ناصر عراق" الروائي، أحد الأصوات السردية المميزة التي اختمرت حساسيتها الروائية، خلال العقدين الأخيرين، وصفه بعض النقاد بأنه "اختزن تجربة جيله من أبناء مصر في العقود الأخيرة، وقام بتخميرها ورسم ظلالها من منظور طفل يشهد انكسار روح أبيه بعد نكسة 67، ويشب ليسأله في خجل عن مصير الوطن الأكبر في التركة المثقلة بديون الإحباط".
عمل ناصر عراق، مديراً لتحرير مجلة الثقافة الجديدة بالقاهرة، ومنسقاً ثقافياً وإعلامياً بمؤسسة ندوة الثقافة والعلوم بدبي. وقد أسهم في تأسيس مجلة الصدى بدبي عام 1999، وتولى رئاسة القسم الثقافي بها لمدة ستة أعوام، كما شارك في تأسيس مجلة دبي الثقافية سنة 2004 وتولى منصب مدير التحرير بها لمدة ستة أعوام تالية. صدر له سبع روايات خلال الفترة من 2008 وحتى 2016، فضلاً عن كتب أخرى منها "تاريخ الرسم الصحفي في مصر"، الذي نال عنه الجائزة الأولى في مسابقة جمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين في دورتها الأولى سنة 2000، وكتاب "الأخضر والمعطوب" عن مؤسسة أخبار اليوم، وقد حصل ناصر عراق على جائزة أحسن مقال في الصحافة الإماراتية في مسابقة "تريم عمران" التي تنظمها مؤسسة الخليج للصحافة سنة 2004، وذلك عن مقاله (الكتابة الفاسدة) الذي نشره في زاويته الأسبوعية بمجلة الصدى آنذاك.
أما رواية "الأزبكية" التي حصدت أمس جائزة كتارا للرواية العربية 2016 (وقيمتها 60 ألف دولار)، وعلى الجائزة الخاصة أيضا بأفضل رواية قابلة للتحويل لعمل درامي عن فئة الرواية المنشورة (وقيمتها 200 ألف دولار)، فهي الرواية السادسة لناصر عراق، صدرت طبعتها الأولى عن الدار المصرية اللبنانية، في مايو 2015.
لاقت الرواية عقب صدورها احتفاء نقديا لافتا، فكتب عنها الناقد الدكتور جابر عصفور ثلاث مقالات نشرها في جريدة الأهرام المصرية، مارس الماضي، كما كتب عنها غير ناقد وباحث منهم محمود عبد الشكور الذي كتب عنها مقالا ضافيا، وكذلك محمد غنيم الذي قدم لها قراءة على موقع اليوم السابع الإلكتروني.
نوعيا، تندرج الرواية تحت شكل "الرواية التاريخية"، تدور فيها الأحداث على مستويين متداخلين من الزمن الروائي، لكنهما متكاملان أيضا؛ الإطار الزمني الأول يستوعب سبع سنوات حاسمة في تاريخ مصر خلال الفترة 1798 وحتى 1805 وهي الفترة التي شهدت دخول الفرنسيين إلى مصر (الحملة الفرنسية على مصر) ومغادرتها لها بعد ثلاث سنوات.
ثم الإطار الزمني الثاني والذي شمل سبعة أشهر أخرى حاسمة في العام 1805 (من مايو إلى نوفمبر) اختار فيه رجال الدين والتجار الأرناؤوطي الألباني محمد على واليا على مصر، لتبدأ صفحة جديدة لأسرة حاكمة لم تسقط إلا في العام 1952. أما أصوات السرد، كما حللها عبد الشكور، فتراوح بين الراوي العليم، واثنين من أبطال الرواية يتحدثان بضمير المتكلم، بل إنهما بطلاها امتياز: النساخ المصري الشاب أيوب السبع، والرسام الفرنسي "شارل فلوبير" الذي عاش تسع سنوات في مصر، قبل وبعد الحملة الفرنسية، وما الرواية في جوهرها سوى قصة تأثر المصري الوطني أيوب بأفكار شارل عن الدولة العصرية الحديثة، اطلاقا من مبادئ الحرية والإخاء والمساواة، ومن أفكار روسو وفولتير ومونتسكيو.
تنتصر الرواية في فكرتها العامة إلى الدولة المدنية الحديثة، وإعلاء قيم الحرية والديمقراطية والمواطنة والمساواة، والتأكيد على الرابطة الوطنية التي تجمع بين أبناء الوطن الواحد بغض النظر عن عرقياتهم وألوانهم وأديانهم أو أي معيار أو محدد آخر للتصنيف أو التمييز، إنها رواية استدعت الماضي لتقرأ الحاضر، واستلهمت وقائع وأحداث قديمة لتوجه من خلالها رسائلها المشفرة بشفرة الفن وكود الرواية..
aXA6IDE4LjExNy4xNTMuMzgg
جزيرة ام اند امز