المرشحون من جميع الأحزاب والكتل السياسية يبحثون عن الناخبين أينما كانوا بل راح البعض منهم يطرق أبواب البيوت.
على مدى يومي الخميس والجمعة 10 و11 مايو الجاري يدلي العراقيون بأصواتهم في صناديق الاقتراع، وهم يتوقعون بحسهم الشعبي العفوي أن المعركة حاسمة لصالح الأحزاب والكتل الدينية المهيمنة على المشهد السياسي.
ورغم نفوذ هذه الطبقة إلا أنها تخشى من ظاهرة مقاطعة الانتخابات، ربما لأنها على علم مسبق أن جماهيرها هي التي تضمن لها الفوز، حتى إن أحد النواب قال مهدداً: "إننا سنجبر الشعب على الانتخاب! الهدف من مقاطعة الانتخابات يشكل تهديداً للعملية السياسية برمتها". لذلك اتخذ مسار الانتخابات لعام 2018 نهجاً مغايراً لما حصل في عام 2014 لأسباب عديدة؛ منها أن الميزانية المخصصة للانتخابات الحالية ليست كما كانت فلكية آنذاك، والتي وصلت إلى المليارات، تم توزيعها خلال الحملة الانتخابية على القريبين من السلطة، وهي الميزانية الأكبر في تاريخ العراق، وإلى الآن لم يُعرف كيف تم صرفها في غياب المشاريع العلاقة التي أعلن عنها على الورق؟
يبحث المرشحون من جميع الأحزاب والكتل السياسية عن الناخبين أينما كانوا، بل راح البعض منهم يطرقون أبواب البيوت، ويجالسون الناخبين، ويغرونهم بشراء أصواتهم، والوعد بتحسين ظروف معيشتهم، واستغلال نقطة الضعف عند الناخب العراقي حتى يُقال إن بعض المرشحين بدأ بإيصال الكهرباء إلى القرى المحرومة على حسابه الخاص، والقيام بحملة مكافحة البعوض والذباب وإزالة النفايات، وإهداء الملابس الرياضية والعطور، وغير ذلك من أجل تحسين صورتهم التي فقد الناخب العراقي الثقة بها.
إن اتساع ظاهرة المقاطعة يعبّر عن خيبة الأمل في الإصلاحات الجوهرية، رغم مناداة الجميع بتأسيس الدولة المدنية القائمة على أسس علمانية، وإلغاء نظام المحصاصة البغيض، وتفعيل الخدمات، والتخلص من الفاسدين
في خضم الهوس السياسي الذي يعصف بأرواح العراقيين هذه الأيام، أصبح ثمن الصوت الانتخابي العراقي بخساً في ظل تنامي ظاهرة مقاطعة الانتخابات التي تهددهم، صحيح أن كتل الحيتان لا يهمها كثيراً أمر الناخبين لأنهم ضمنوا لصالحهم الكثير من الأصوات بشتى الطرق، إلا أن مقاطعة الانتخابات لن تقوّي سوى كتل الطبقة السياسية التي تسعى إلى الانفراد بالسلطة، ومهما يُقال عن استغلال المال العام لشراء الأصوات الانتخابية إلا أن مساحة التحرك لا تزال قائمة، هناك شكوك بنزاهة مفوضية الانتخابات وتلاعبها المزعوم في النتائج النهائية، وكل ما يقال عنها سوف تصبُ مقاطعة صناديق الانتخابات في صالح الحكام الحاليين، في الوقت الذي يسعى فيه دعاة المقاطعة إلى ترسيخ قضية الدولة المدنية، على الرغم من أنها لم تصل إلى أوج قوتها في الوقت الحاضر، هؤلاء يخشون أن تكون الانتخابات الحالية إعادة للتقسيمات السابقة مع بقاء الطائفية والحزبية والمناطقية، يُضاف إليها تصاعد القوة العشائرية التي تفرض وجودها على الساحة، صورة قاتمة يقدمها هؤلاء، وهي ليست بعيدة عن الواقع كثيراً. ولربما يكون ذلك دافعاً عند عدد كبير من الناخبين الإصرار على خوض صناديق الاقتراع من أجل تغيير هذه الصورة.
وعلى الرغم من أن جميع الإحصاءات والتقديرات تشير بوضوح إلى ضعف الإقبال على الانتخابات عبر تدقيق قوائم التحديث إلا أنها قائمة في الداخل والخارج، من خلال استخدام أحدث التقنيات في تسجيل الأصوات الانتخابية.
وربما نطرح التساؤل الملح: "لمصلحة من ستكون ظاهرة مقاطعة الانتخابات؟".
إن التفريط بحق الناخب العراقي وتقوقعه وعدم الإدلاء بصوته، إنما يسهم في منح الفاشل والفاسد فرصة تجديد عضويته، بفسح المجال لأتباعه بالتصويت له وتأكيد شرعيته. ولذلك فإن شعار "مقاطعوون" لا يلقى الصدى الواسع في المجتمع العراقي، رغم أن أصحابه ليسوا بهذه القوة التنظيمية وغير قادرين على التأثير على مراكز صنع القرار السياسي، لذلك لن يكون لمقاطعتهم تأثير معين، بل يشكل خسارة لهم وتضييع فرصة التغيير. وفي غياب الحلول، لا يوجد الآن سوى حل التداول السلمي للسلطة، والانخراط في العملية السياسية ما دام مجلس النواب هو الذي يقرر التشريعات التي تخص المواطنين. لذا فالعزوف عن المشاركة في الانتخابات لا يحقق شيئاً، حتى لو تمت مائة في المائة، لأن ذلك من شأنه أن يبقى على الحكومة الحالية. وهذا يشكل كابوساً حقيقيًا للقوى الأخرى خارج السلطة والمطالبة بمحاسبة الفاسدين.
إن اتساع ظاهرة المقاطعة يعبر عن خيبة الأمل في الإصلاحات الجوهرية، رغم مناداة الجميع بتأسيس الدولة المدنية القائمة على أسس علمانية، وإلغاء نظام المحصاصة البغيض، وتفعيل الخدمات، والتخلص من الفاسدين. ولكن هل تتمكن المقاطعة من تحقيق كل هذه المطالب؟ الإجابة عن هذا السؤال صعب للغاية لأن خيوط الأحزاب والكتل السياسية بجميع أشكالها معقدة لغاية، وإنه يمكن فك ارتباطاتها الإقليمية والدولية الواسعة بسهولة. ومهما يكن من أمر فإن الانتخابات مهما كان درجة التزييف والتلاعب في نتائجها، أضاءت وعي المواطن العراقي أمام ما يجري في العالم، خاصة أنه لم يعتد الانتخابات منذ نشأة الدولة العراقية في عام 1921 وما تلاها من انقلابات وحكومات عسكرية وسخريتها من صناديق الاقتراع.
لا شك أن المتضرر الأول والأخير من المقاطعة دعاة التغيير والاصلاح، ولا يمكن والحالة هذه، أن تصل المقاطعة إلى العصيان الانتخابي الذي شهدته بلدان عديدة في التاريخ. لذا فالمشاركة في الانتخابات تسهم في فرز أعضاء جدد لمجلس النواب وربما يسهم هؤلاء في تحسين الأمور.
لا شك أن المقاطعة تقرع جرس الإنذار، وتعكس حجم الخوف والقلق في ظل تصاعدت هذه الموجة وتحولها إلى ظاهرة قد تأخذ حجماً أكبر في الانتخابات التالية، رغم أن غالبية رموز السلطة تؤمن بأن هذه المقاطعة لن تغير شيئاً من نتائج الانتخابات. زعيما التيار الصدري وتيار الحكمة، مقتدى الصدر وعمّار الحكيم وآخرون دعوا الناخبين إلى الذهاب إلى صناديق الاقتراع، وهذا يجسّد حجم الخوف والقلق من ظاهرة العزوف عن الانتخابات.
هل ستضع نتائج الانتخابات الحالية حداً للفساد المستشري في مفاصل الدولة أم تقوي شوكتهم؟
الصورة ليست وردية كما هو واضح إلا أن الانتصار على داعش منح طاقة إيجابية إلى جميع القوى السياسية، وباتت الأحزاب المدنية والعلمانية تراهن على وعي الشعب العراقي في اختيار الأصلح، رغم أن الأحزاب والكتل الدينية تمتلك جميع الأدوات ووسائل التأثير القادرة على التحكم وفرض الرأي، وهذا ما يفسر ذهاب رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، إلى التحالف مع رموز الفساد من أجل تحقيق الانتصار. من المؤكد أن الانتخابات الحالية، بكل ما تحمله من تراكمات متشعبة، لن تكون نزيهة مائة في المائة، لأسباب عديدة، يطول شرحها في هذا المقام،
وظاهرة المقاطعة ستتخذ وجه العملة، إما أن تتحول إلى تهديد الطبقة السياسية المتحكمة أو ستستفيد منها هذه الطبقة لتمرير أصوات القوى التي تؤيدها لأسباب تكتيكية وليس استراتيجية، وقد لا تختلف النتائج النهائية عن التوقعات من أن هذه الانتخابات ستعيد التركيبة السابقة إلى الواجهة من جديد، بصورة تضمن مصالحها السياسية والمالية.
في المحصلة النهائية، تأتي دعوات مقاطعة الانتخابات، من مصدرين، هما الأحزاب والكتل الدينية، ذات الحضور الكبير، والمشككين فيها، الذين يفتقرون إلى بديل معين أو استراتيجية واضحة، لكنها رغم ذلك تسعى القوى المدنية والعلمانية إلى تغيير الواقع المعطى الذي أفرزته سنوات طويلة من سوء الإدارة والفساد والحرب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة