بصرف النظر عما يجري في مسار العلاقات الأوروبية الروسية فليس متوقعا التوصل لآليات منظمة للتعامل مع القضايا الخلافية المتعددة بينهما، وليس ملف أوكرانيا فقط.
فالملفات بين الجانبين متعددة، كملف الأمن الأوروبي الشائك، وتوسيع حلف الناتو، وإعادة ترتيب الأولويات الأمنية والسياسية في ظل استمرار حالة التجاذبات لأسباب، أولها:
افتقاد الثقة بين أمريكا وأوروبا من جانب، وروسيا من جانب آخر، وعدم وجود مقاربة سياسية حقيقية يمكن العمل من خلالها في ظل تكرار الرؤى، وإعادة تطوير المقترحات، وهو ما لم يعد يلقى قبولا من الجانبين وسط تخوف أوروبي من إقدام روسيا على عمل عسكري في أوكرانيا، واختبار نوايا وأهداف الجانب الروسي على الأرض، حيث تستبق الخيارات العسكرية والأمنية أي خيارات سياسية مطروحة، في ظل تصعيد روسي محكم ومنضبط، وفي إطار مخطط يقوده الرئيس بوتين شخصيا، وهو ما يؤكد أن روسيا لن تسعى إلى التهدئة بعد أن أعدت عدتها للمواجهة القادمة لا محالة وسط ما يجري من تمهيد لمسارح العمليات وإدخال القوات الروسية على مناطق الحدود، وبدء الاستعداد لفرض استراتيجية الأمر الواقع، رغم كل ما يجري من محاولات لتطويق ومحاصرة التحرك الروسي عبر استمرار الحوار الاستراتيجي الأوروبي، ودخول الولايات المتحدة كطرف فاعل ومؤثر، ولكن من الواضح أن روسيا رتبت أولوياتها مواجهة وسلما.
لهذا فإن استراتيجية روسيا في التعامل ستختلف في الفترة المقبلة مع كل ترتيب للأولويات المتاحة، بل وفرض شروطها في أي تفاوض محتمل حال دخول المواجهات مرحلة جديدة، وهو ما تعلمه الدول الأوروبية، حيث ما زال الموقف الأوروبي يتسم بعدم الوضوح والانقسام، وهو ما يستثمره الجانب الروسي جيدا ويعمل عليه بذكاء.
ثانيا: أن الجانب الأوروبي لا يمكن أن يعمل بمفرده، بل لا بد من حضور أمريكي متردد وغير جاد في الحسم، برغم ما يتردد، خاصة أن الجانب الأمريكي لن يقدم على القيام بأي عمل عسكري في المقابل إن تم التصعيد الروسي، ودخلنا في مواجهة حقيقية وقد يترك ذلك في نطاق الناتو، الذي لا يمكن أن يدخل في مواجهة أيا كان، مع التقدير بأن القوة العسكرية الأوروبية الروسية غير متوازنة، وهو ما يدركه الجانبان الروسي والأوروبي، في ظل دعم معنوي وعسكري أمريكي قد يزيد، ولكن الإشكالية الحقيقية فيما سيكون عليه الجانبان الروسي والأوروبي إن قرر "بوتين" استخدام الخيار العسكري، وهو أمر وارد ومطروح بالفعل، ومن الممكن أن يتم استخدامه فعليا، والرسالة أن روسيا ما تزال تقبض على خياراتها في التعامل وسط ارتباك أوروبي وأمريكي، الأمر الذي يعطي دلالات حقيقية بأن الإدارة الأمريكية ستعجز عن الدخول في مواجهة على مستويين -الصيني والروسي- في آن، وهو أمر مستبعد ولا تستطيع الإدارة الراهنة بكل ما تطرحه من خيارات ورؤى، بل وتصورات مسبقة، الدخول فيه ولو مرحليا، لأن التقييمات الاستراتيجية للإدارة الأمريكية، سواء في الاستخبارات المركزية أو الخارجية، أن روسيا ستستخدم العمل العسكري ولن تتراجع حماية لأمنها القومي، والذي لا يمكن أن تقدم فيه أي تنازلات حقيقية في ظل ما يجري من حلف الناتو من عمل على توسُّعه بدول جديدة ما تزال روسيا ترى فيها ظهيرا استراتيجيا ودائرة نفوذ حقيقية، ولا يمكنها التخلي عن تصوراتها من خلال أي تفاوض سياسي أو استراتيجي.
ثالثها: أن الإقدام على أي إجراءات متعلقة بمسار العلاقات بين روسيا والحلف ستتطلب بالفعل بناء إجراءات ثقة غائبة، برغم الحديث عن فتح مكتب مقيم للحلف في موسكو، والانفتاح سياسيا على بعض الأفكار لتحفيز الجانب الروسي على استمرار التفاوض.
فالواقع الراهن يشير إلى أن دول حلف الناتو وروسيا يسعيان للاستمرار وعدم قطع شعرة معاوية، التي يمسك بها الجانب الروسي وليس حلف الناتو كما يتصور البعض، وذلك في ظل ما يُطرح داخل الحلف على المبدأ الأساسي بأن لكل دولة الحق في اختيار مسارها الخاص، واتفاق الحلفاء أيضاً على أن أوكرانيا و30 من الحلفاء فقط هم من يقررون متى تكون أوكرانيا مستعدة للانضمام إلى عضوية الناتو، وليس أي طرف آخر، حيث لا تستطيع روسيا الاعتراض على انضمام أوكرانيا إلى الناتو مع تأكيد أن دول الناتو تقدم دعما سياسيا وعمليا لكييف، لكن أوكرانيا ليست عضوا في التحالف بعد، ولا يمكنها المطالبة بضمانات أمنية وفقا للمادة الخامسة من الميثاق، فيما ستستمر روسيا تطالب بعدم توسيع الناتو وسحب القوات من الدول الشرقية، وهو أمر سيظل غير مقبول بالنسبة لدول حلف الناتو، حيث يمكن -وفقا لتصوراتها- لكل دولة، بما في ذلك أوكرانيا، اختيار مسارها الخاص، حيث لا تستطيع روسيا أن تقرر مَن سينضم إلى الناتو ومَن لن ينضم.
أي إننا سندخل في مرحلة حائط الصد إن تمسك كل طرف بما يطرح، حتى مع خيارات التصعيد أو التهدئة الحذرة، التي يمكن أن تعلن عن نفسها في الفترة المقبلة، خاصة مع إعلان وزارة الخارجية الأمريكية أن الولايات المتحدة مستعدة للتباحث مع فنلندا والسويد حول إمكانية انضمامهما إلى الناتو -انضمت 14 دولة أوروبية كانت سابقاً أعضاء في حلف وارسو إلى الحلف الأطلسي أولها المجر وبولندا وتشيكيا وآخرها ألبانيا وكرواتيا ومونتي نيغرو وجمهورية شمال مقدونيا- إذا أعرب البلدان عن هذه الرغبة، وهو ما يتعارض مع مجمل الموقف الروسي لتوسيع الناتو، وبالتالي فإن توسيع الحلف يعني توسيع نطاق المواجهة المرتقبة.
رابعها: ما تريده روسيا بداية هو تراجع دول حلف الناتو عن قرارها لعام 2008 بفتح الباب أمام أوكرانيا وجورجيا للانضمام إلى الحلف، الأمر الذي يرفضه الجانبان الأمريكي والأوروبي معا، خاصة أن روسيا تريد ضمانات أمنية مكتوبة، أو معاهدة أو اتفاقاً جديداً مع الأطلسي يمتنع بموجبه الحلف عن القيام بأنشطة عسكرية قريباً من الحدود الروسية في أوكرانيا وشرق أوروبا ومنطقة القوقاز، وصولاً إلى آسيا الوسطى، ويعمد إلى خفض حضوره العسكري في الجوار الروسي، كذلك الامتناع عن نشر قوات وأسلحة هجومية تزيد على ما كان موجوداً قبل عام 1997.. حيث تريد روسيا "اتفاق يالطا جديدا" لتقاسم النفوذ في أوروبا، أو بالأحرى لتستعيد نفوذها من خلاله.
الإشكالية الحقيقية أن الموقف الأوروبي ما زال منقسما إجماليا في التعامل مع روسيا، رغم التسليم بضرورة حسم الخيارات مع موسكو والتحرك شرقا والتحالف مع الصين، لكن دول حلف الناتو في التوقيت نفسه بحاجة إلى روسيا لإيجاد حلول لمشكلات مستمرة، مثل الملف النووي الإيراني أو سوريا أو ليبيا.
كذلك فإن دول الحلف لا يمكنها أن ترسم صورة للأمن الأوروبي بعيداً عن روسيا، والحلف أيضا بحاجة إلى روسيا في ملف الاتفاقيات الخاصة بالصواريخ المنشورة في أوروبا، أو بشأن الترسانات النووية.
سيستمر التجاذب إذًا قائما ما لم تقدم روسيا على تغيير المعادلة الاستراتيجية وحسم خياراتها، ووقتها قد يضطر حلف الناتو لتغيير مقاربته الراهنة دفاعا عن مصالحه الأمنية والاستراتيجية أيضا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة