لم يجد الشارع الأمريكي هنا في واشنطن، وبالقرب من الكابيتول، وصفًا لما صدر من حكم قضائي يوم الجمعة بحق ترامب سوى أنه يندرج تحت مصطلح "العقوبة المذهلة".
ذلك أن تلك العقوبة، التي صدرت في محاكمة ترامب بتهمة الاحتيال المدني في نيويورك، غير مسبوقة في تاريخ الرجل، حيث أمر أحد القضاة الرئيس السابق بسحب أكثر من 355 مليون دولار من ثروته، بالإضافة إلى الفوائد، متهمًا إياه بأنه كذب لسنوات بشأن ثروته في البيانات المالية التي استخدمها لتأمين قروض وعقد صفقات أثناء بناء إمبراطورية العقارات التي أوصلته، بحسب رأي معظم الساسة الأمريكيين، إلى الشهرة والرئاسة، في إشارة إلى أن شعبويته ما كانت لتوصله إلى سدة الرئاسة لولا ثروته الهائلة.
بجوار الكابيتول، جلست في نقاش مطول مع أحد الصحفيين في قراءة لما كتب القاضي آرثر إنجورون من قرار مؤلف من 92 صفحة يعفي شركة ترامب من الإغلاق، لكنه يجبرها على الخضوع لسنوات تحت إشراف المحكمة، حيث اختار القاضي عبارة قانونية بليغة يصف فيها أفعال ترامب بأنها ضمن "عمليات الاحتيال التي تم اكتشافها هنا وأنها تقفز من الصفحة وتصدم الضمير".
هذه القضية لم تأخذ في السابق ذلك الضجيج الإعلامي ويأتي الحكم هنا بعد محاكمة استمرت شهرين ونصف الشهر في الدعوى القضائية التي رفعتها المدعية العامة في نيويورك، ليتيتيا جيمس، وبالتأكيد فإن القضية تمس جوهر صورة ترامب كقطب عقارات ثري وذكي تحول إلى قوة سياسية لا نظير لها في التاريخ الأمريكي.
وهنا يرد السؤال عن التأثير الاقتصادي الذي سيلحق بالرجل بسبب هذه العقوبة وهل ستتأثر "ديون ترامب القانونية" المتزايدة مما يمكن معه أن يوضع المرشح الرئاسي الجمهوري في أزمة نقدية خطيرة أثناء حملته لاستعادة البيت الأبيض.
خلال نقاشي مع ذلك الصحفي، استطعت أن أدون ما أزعم أنه ملخص لهذه القضية في محاولة لاستقراء المستقبل القريب للرئيس ترامب وذلك من خلال النقاط التالية:
أولًا، حكم القاضي انطلق من أن ترامب شارك في مؤامرة استمرت لسنوات مع كبار المسؤولين التنفيذيين في شركته وأنه أسس ما يمكن وصفه بمنظمة لخداع البنوك وشركات التأمين بشأن حجم ثروته والقيمة الحقيقية لعقارات مثل برج ترامب في مانهاتن ومنتجع مارالاغو الخاص به ونادٍ في فلوريدا.. وأن ترامب والمتهمين الآخرين ارتكبوا الاحتيال في البيانات المالية.
وأن ترامب أيضاً مسؤول عن 5 من المطالبات الـ6 المتبقية في دعوى (تزوير السجلات التجارية، وإصدار بيانات مالية كاذبة، والتآمر لارتكاب عمليات احتيال في مجال التأمين والتآمر لتزوير السجلات التجارية).
وبالتالي فإن 2 من المديرين التنفيذيين السابقين في منظمة ترامب وهما ألين ويس لبيرج وجيفري ماكوني مسؤولان عن الاحتيال في مجال التأمين. وكان الحكم بالغرامة المالية لأن قانون الولاية لا يسمح لهيئات المحلفين بالنظر في هذا النوع من الدعاوى القضائية، التي تعرف باسم "الإغاثة العادلة" ولها قواعد مختلفة عن القضايا الأخرى التي تنطوي على عقوبات مالية كبيرة، ناهيك عن أن أيًا من الطرفين لم يطلب تشكيل هيئة محلفين.
ثانياً، الرئيس ترامب قد ينتهي به الأمر في نهاية المطاف إلى أن يصبح مديناً بنصف مليار دولار أو أكثر نتيجة لحكم المحكمة، بالإضافة إلى الغرامة البالغة 355 مليون دولار – وهي استرداد ما اعتبره القاضي "مكاسب غير مشروعة" من بياناته المالية الزائفة – يتعين على ترامب دفع الفائدة عليها وبمعدل سنوي قدره 9%، كما ينص قانون نيويورك.
ويقدر مكتب قانوني أن ترامب- حتى الآن- مدين بمبلغ إضافي قدره 98.6 مليون دولار كفوائد، ليصل إجمالي الغرامة إلى 453.5 مليون دولار.
وسوف تستمر الفوائد في التراكم حتى يدفع ترامب كامل المبلغ، حيث إن القاضي إنجورون قضى في حكمه بأن الفائدة التي يدين بها ترامب على نحو نصف إجمالي مبلغ العقوبة، المتعلق بمدخرات القروض، يمكن حسابها منذ بداية التحقيق في عام 2019. وبعض الفوائد على المبلغ المتبقي، الذي يتعلق بمعاملات أحدث، يمكن حسابه بدءًا من مايو/أيار 2022 أو يونيو/حزيران 2023.
وعمومًا فقد فرض إنجورون غرامات بقيمة 363.9 مليون دولار على ترامب والمتهمين معه، بمن فيهم ابنيه إريك ودونالد ترامب جونيور، أو نحو 464 مليون دولار مع الفوائد، وفقًا لمكتب قانوني.
ثالثًا، يؤكد الرئيس السابق ترامب دومًا أن ثروته تبلغ عدة مليارات من الدولارات، وشهد العام الماضي أمام المحكمة أنه كان لديه نحو 400 مليون دولار نقدًا، بالإضافة إلى عقارات واستثمارات أخرى. بينما يرى القاضي إنجورون أن ادعاءات ترامب الزائفة بالثروة كانت حاسمة لنجاحه، حيث وفرت له أسعار فائدة منخفضة على القروض وسمحت له ببناء مشاريع لم يكن ليتمكن من إكمالها لولا ذلك.
لذلك قرر القاضي أن تلك المدخرات والأرباح غير المتوقعة كانت "مكاسب غير مشروعة" وأمره هو والمتهمين معه بتقديمها للدولة مع الفوائد.
رابعًا، نشرت الصحافة الأمريكية جدولًا بالمبالغ المالية التي يتعين على ترامب دفعها سواء بشكل فردي أو كمالك لكيانات مؤسسية مختلفة. وتلك المبالغ هي: 168 مليون دولار من المدخرات على القروض التي حصل عليها باستخدام بياناته المالية المتضخمة لمنتجع غولف بالقرب من ميامي، وفندق في شيكاغو وبرج سكني، وفندق في واشنطن العاصمة، ومبنى مكاتب في مانهاتن.
وحصل ترامب على 3 قروض من خلال وحدة إدارة الثروات الخاصة في دويتشه بنك، التي عرضت أسعار فائدة أقل من قسم العقارات التجارية، واستخدم بياناته المالية ليُظهر للبنك أنه ثري ويتمتع بمخاطر ائتمانية جيدة.
– 126.8 مليون دولار أرباحًا من بيع فندق ترامب الدولي في واشنطن في مايو/أيار 2022 إلى شركة تحت اسم "والدورف أستوريا"، حيث استخدم ترامب 170 مليون دولار من أصل 375 مليون دولار لسداد قرض على العقار. وذهبت العائدات الأخرى إلى أولاده.
– 60 مليون دولار، بالإضافة إلى الفوائد، من بيع حقوق إدارة ملعب للغولف في مدينة نيويورك في يونيو/حزيران 2023.
وقد أشار القاضي إنجورون في حكمه إلى أن المشتري، شركة بالي، ستدفع لترامب مبلغًا إضافيًا قدره 115 مليون دولار إذا حصلت على ترخيص كازينو للملكية.
ومع ذلك، لم يذكر ما إذا كان سيطلب من ترامب التنازل عن هذه الأموال أيضًا. يتعين على ابني ترامب، إريك ودونالد جونيور، أن يدفع كل منهما ما يزيد قليلًا على 4 ملايين دولار، بالإضافة إلى الفوائد مقابل حصصهما في مبيعات فنادق واشنطن.
خامسًا، لا بد من التوقف عند وصف ترامب للقرار بأنه "سلاح ضد خصم سياسي" وأنه يُعاقب لأنه "بنى شركة مثالية، وأموالًا كبيرة، ومباني عظيمة".
كل ما سبق يشير إلى أن الرئيس ترامب سيستأنف الحكم، وهو ما أكده فريقه القانوني بقوله: "بالطبع سيستأنف وسيظل واثقًا من أن قسم الاستئناف سيصحح في النهاية الأخطاء الكارثية التي لا تعد ولا تحصى التي ارتكبتها محكمة غير مرتبطة بالقانون أو الواقع".
وأضاف الفريق أن "المحاسبين الخارجيين الذين ساعدوا في إعداد بياناته المالية كان ينبغي لهم الإبلاغ عن أي تناقضات، وأن الوثائق جاءت مصحوبة بإخلاء مسؤولية يحميه من المسؤولية".
وعمومًا، يمكنني كباحثة متخصصة في الشأن الأمريكي أن أقول هنا إن البنوك الأمريكية عادة تبذل "العناية الواجبة" الخاصة بها تجاه المقترضين وكانت في كل الأحوال ستؤهل الرئيس ترامب للحصول على القروض على أي حال.
وستبقى الأيام المقبلة حبلى بالتطورات في هذا الأمر، حيث سيقدم مكتب الكاتب في محكمة إنجورون الأوراق الخاصة بجعل القرار رسميًا مما يمكن ترامب من تقديم استئناف أمام قسم الاستئناف في نيويورك.
لكن الخبر الأكيد حتى كتابة هذه السطور هو أن محاميي ترامب سيطلبون وقفًا فوريًا للحكم - وهو مصطلح قانوني يعني بوقف تنفيذ قرار قاضي المحكمة أثناء استمرار عملية الاستئناف.
وبموجب قانون الولاية، سيحصل ترامب على وقف تلقائي إذا قدم أموالًا أو أصولًا أو سند استئناف يغطي المبلغ المستحق عليه.
وتستغرق عملية الاستئناف عادةً أشهرًا، إن لم يكن سنة أو أكثر. إذا لم ينجح ترامب في قسم الاستئناف، فيمكنه أن يطلب من أعلى محكمة في الولاية، محكمة الاستئناف، النظر في قبول قضيته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة