ماكرون غارق في تعقيدات الشرق الأوسط.. لماذا «السياسات المتأرجحة»؟
فيما يستعد الرئيس الفرنسي لاستضافة مؤتمر دولي حول أزمة لبنان، فإن نهجه المتعرج تجاه الصراع يدفع البعض إلى التشكيك في فاعليته بوصفه وسيطاً.
وقال دبلوماسي فرنسي سابق: ”بعض المسؤولين المحيطين بالرئيس إيمانويل ماكرون مؤيدون جداً لإسرائيل، والبعض الآخر مؤيدون للفلسطينيين“.
وأضاف المصدر الذي فضل عدم الكشف عن هويته، لمجلة "بوليتيكو" الأمريكية: ”في كثير من الأحيان، بدا الأمر وكأن الرئيس قال آخر ما قيل له“.
وهناك تاريخ معقد بين فرنسا وإسرائيل يعود إلى فترة اقتسام الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية، الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩-1945).
وتنظم فرنسا، يوم الخميس المقبل، بمبادرة من الرئيس، إيمانويل ماكرون، "المؤتمر الدولي لدعم لبنان"، في ظل الحرب التي تدور فيه بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله.
ولن تشارك إسرائيل ولا إيران الداعمة لحزب الله في هذا الاجتماع، كما يغيب عنه وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، الذي تعد بلاده الحليف الأول لإسرائيل، ما ينذر بفرص ضئيلة بأن يحرز تقدما نحو وقف إطلاق نار، ولو أنه قد يسفر عن مبادرات على صعيد المساعدات الإنسانية، وفقا لـ"فرانس برس".
شد وجذب
وفي السنوات الأخيرة، وخاصة منذ الهجوم على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 والحرب اللاحقة على غزة، كانت سياسة البلاد تجاه المنطقة موضع شد وجذب، بحسب مسؤولين ودبلوماسيين فرنسيين حاليين وسابقين.
فمن جهة، هناك ما وصفوه بالمجموعة المؤيدة لإسرائيل التي تطلق على نفسها اسم ”المحافظين الجدد“، وعلى الجانب الآخر، أولئك الأكثر حساسية تجاه القضية الفلسطينية.
وقالت المصادر إن الرئيس الفرنسي قد تقلب بين الجانبين خلال الأزمة.
إذ كان رد فعل ماكرون الأولي على هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 هو التعهد بـ”التضامن غير المتحفظ“ مع إسرائيل. حتى أنه اقترح تشكيل تحالف لمحاربة حماس، وهي فكرة رفضها المجتمع الدولي على الفور.
وفي العام الذي تلا ذلك، ومع تزايد عدد القتلى في غزة، ازدادت حدة انتقاده لإسرائيل بشكل ملحوظ، ولكن ليس بشكل متسق.
وقال الدبلوماسي الفرنسي السابق: ”الأمر متذبذب، وبعد مرور أكثر من عام (بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول)، لم يتغير“، مضيفا: ”ما زلت لا أعرف ما يفكر فيه الرئيس حقًا.“
وفي الأسابيع الأخيرة، شدد ماكرون من موقفه ضد إسرائيل، حيث تبادل الانتقادات اللاذعة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بسبب الخسائر في صفوف المدنيين والضربات الإسرائيلية ضد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان.
كما دعا الرئيس الفرنسي الدول الغربية، إلى وقف تسليم الأسلحة إلى إسرائيل، وذلك قبل يومين من ذكرى هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول.
ولكن عندما ردّ نتنياهو على الرئيس الفرنسي، سارع الأخير إلى إصلاح الأمور، وأصدر بيانًا صحفيًا حول دعم فرنسا ”الثابت“ لأمن إسرائيل، مع اعترافه بوجود اختلافات في وجهات النظر.
تصريح ثم تراجع
في الأسبوع الماضي، نُقل عن الرئيس الفرنسي في الصحافة قوله إنه على إسرائيل ألا ”تتجاهل قرارات الأمم المتحدة“ وذلك خلال اجتماع مغلق لمجلس الوزراء، في تعليقات شديدة اللهجة أكدها وزير خارجيته.
لكن ماكرون تراجع الخميس الماضي عن تصريحاته واتهم الوزراء والصحافة بتحريفها.
وعزا المسؤولون هذا التأرجح السريع إلى عدم وجود سياسة فرنسية قوية وواضحة تجاه المنطقة.
وقال مسؤول فرنسي سابق يعرف المنطقة جيداً، إن ”قناعات ماكرون تعتمد على من يتحدث إليه“، موضحا ”عندما يتحدث إلى الدول الناشئة، يكون مؤيدًا للفلسطينيين، وعندما يتحدث إلى [نتنياهو]، يكون كل ما يهمه هو أمن إسرائيل“.
ورداً على سؤال في مؤتمر صحفي يوم الخميس حول ما إذا كانت تصريحاته المتغيرة بسرعة قد أضرت بنفوذ فرنسا في المنطقة، رد ماكرون بأن الوضع ”معقد بما فيه الكفاية“، وأنه ”يزن كلامه في كل مرة منذ البداية“.
المدارس المتنافسة
وتعكس وجهات نظر الرئيس الفرنسي المتذبذبة اختلافات في الرأي بين المسؤولين في وزارة الخارجية، وما يسمى بالخلية الدبلوماسية في الإليزيه، حيث يصنع الرئيس الفرنسي السياسة الدولية.
تضم فرنسا أكبر جاليتين مسلمة ويهودية في أوروبا، مما يجعل الصراع الحالي، قضية سياسية داخلية حساسة.
وقال دبلوماسي فرنسي سابق ثانٍ إن قسم شمال أفريقيا والشرق الأوسط في وزارة الخارجية (المعروف باسم ANMO) يميل تقليدياً إلى ”دعم القضية الفلسطينية والضغط على إسرائيل ويريد الحد من تسليم الأسلحة إلى إسرائيل“.
وبلغت هذه المدرسة الفكرية ذروتها في عهد الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، الذي اكتسب مكانة "نجم" في المناطق الناطقة بالعربية في الشرق الأوسط عندما دخل في خلاف مع مسؤولين أمنيين إسرائيليين خلال زيارة إلى القدس عام 1996.
بروز المحافظين
وفي الفترة الأخيرة، تنامى نفوذ التيار المنافس المعروف باسم ”المحافظين الجدد“ في ظل رئاسة نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند وإيمانويل ماكرون.
ووفقًا لدينيس بوشار، السفير الفرنسي السابق لدى الأردن، فإن المحافظين الجدد كانوا ”مهيمنين“ فيما بين عامي 2022 و2024.
وقال بوشار: ”[لقد] همّشوا حركة عدم الانحياز، التي كانت تُعتبر ’الشارع العربي‘ المعادي لإسرائيل“.
ووفقًا لكاميل لونس، نائب رئيس مكتب المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في باريس، فإن ”مركز الثقل الفرنسي قد تحول نحو موقف أكثر تأييدًا لإسرائيل“ في السنوات الأخيرة.
ولكن منذ بداية الجولة الأخيرة من الأعمال العدائية، ازدادت السياسة الفرنسية انتقاداً لإسرائيل، مع تراكم الخسائر البشرية في غزة، حيث تشير التقديرات إلى مقتل أكثر من 40 ألف شخص.
واتخذ هذا التحول منحى أكثر حدة بعد أن غزت إسرائيل لبنان في سبتمبر/أيلول، وهي مستعمرة فرنسية سابقة، حيث أثار الهجوم على جماعة حزب الله مخاوف من اندلاع حرب إقليمية أكبر.
وكان الهجوم بمثابة انتكاسة لماكرون الذي كان يحاول تهدئة الصراع. فقد شنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي الهجوم في الوقت الذي اعتقدت فيه باريس أنها على وشك التوصل إلى وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل لمدة 21 يومًا.
وقال المسؤولون إنه بعد التجاذبات الأخيرة مع نتنياهو، من المرجح أن تستمر التقلبات. خاصة في ظل وجود ضغوط وضغوط مضادة في وزارة الخارجية وفي الإليزيه، وفق مصادر "بوليتيكو".