صنع في الإمارات.. مانشستر سيتي حكم إنجلترا بالعقل قبل المال
11 عاما عاشتها جماهير مانشستر سيتي في ظل الحلم العربي الإماراتي.. فما الذي تغير خلال حقبة الشيخ منصور بن زايد آل نهيان بالنادي السماوي؟
كان النسر الرابض على شعار نادي مانشستر سيتي القديم جريحاً، ترقش جسده ندبات وجراح بالغة، تراكمت على مر السنين منذ زوال أيام المجد، منكمشاً يبحث عن مأوى للاختباء، ليس من برودة طقس إنجلترا، وإنما من قسوة الأيام عليه.
وفي تلك اللحظة التي وقع فيها الشيخ منصور بن زايد آل نهيان عقد امتلاك النادي تبدل الأمر تماماً، فقد صدح النسر الجريح فرحا، واندملت جراحه، ليجوب كل أنحاء إنجلترا ويعلن للجميع أنه قد عاد للتحليق من جديد.
وتحول الطقس البارد حول منشآت النادي الإنجليزي إلى ربيع تغلفه رائحة الورود الذكية القادمة من حدائق الشرق العربية، وبات جني البطولات واحدة تلو الأخرى يجلب الدفء لأجواء السيتي، مصحوبا بمشاعر جماهيره الملتهبة الفرحة بالألقاب.
وأسهمت التطلعات الإماراتية غير المحدودة في تحقيق النادي خلال 11 عاما بطولات وألقابا تتفوق بلقب على ما حققه مانشستر سيتي خلال عمره الممتد إلى نحو 114 عاما قبل حقبة الشيخ منصور بن زايد، بواقع 13 لقبا محليا متنوعا خلال العقد الأخير.
اتهامات وردود
في الوقت الذي تحتفل فيه جماهير مانشستر سيتي الوفية الملقبة بالمواطنين أو "السيتيزنس" من وقت لآخر بتوالي إنجازات الحلم العربي الإماراتي، كانت السهام تُرمى من كل حدب وصوب لاصطياد النسر المُحلق فوق ملعب الاتحاد.
بدأت الاتهامات ومحاولات عرقلة المسيرة، وكان الاتهام الأبرز هو أن السيتي صنيعة الأموال فحسب، مع تجاهل العقلية الإدارية الإماراتية التي رسمت خارطة المستقبل المُشرق للنادي بفكر جديد، وتمكنت من قيادته لحصد البطولات بسياسة احترافية متميزة.
وللرد على ذلك يقول سام لي، الصحفي الإنجليزي الأشهر في متابعة أخبار مانشستر سيتي، والذي يكتب لصحيفة "أتلتيك" الأمريكية، في حديث لـ"العين الرياضية": "لم يكن الأمر متعلقاً بالمال فقط، بل بالإدارة والعقلية الجيدة التي أدارت النادي".
ويضيف سام، الذي يعد أحد أكثر المصادر الموثوقة عند جماهير السيتي حول العالم: "الشيخ منصور بن زايد نقل النادي من مكان لآخر، إلى المكانة التي هو عليها الآن، وهو تغيير عظيم لم يكن ليحدث دون عقلية إدارية مميزة".
وواصل الصحفي الإنجليزي: "السيتي يتمتع الآن بعقلية انتصارية تدفع الفريق للقتال دائماً حتى النهاية لحصد الألقاب، وبات لديه روح وهوية مميزة".
ويرد سام على الادعاءات بشأن اقتصار الأمر على مجرد الدعم المالي وتجاهل العقلية الإدارية المميزة بالقول: "كثيرون يملكون المال، لكن لا أحد حقق ما حققه السيتي، فقد قام النادي بشراء لاعبين مثل ديفيد سيلفا ويايا توريه وسيرجيو أجويرو بمبالغ متوسطة وغير قياسية، ولم يشتر ميسي ليحقق النجاح".
ولعل ما قاله سام لي في ختام حديثه دليل دامغ يرد على متهمي مانشستر سيتي بالاعتماد فقط على المال في نجاحه، فلاعب مثل الأرجنتيني كارلوس تيفيز كان يلعب لفريق عريق مثل مانشستر يونايتد، لكن الجار الأحمر لم يستطع الحفاظ عليه رغم تألقه في صفوفه وقيادته لتحقيق الدوري الإنجليزي.
وانتقل تيفيز للسيتي في صيف 2009، وظل بين كتيبة السماوي لمدة 4 سنوات، ليُسجل اسمه بين اللاعبين الذين أسهموا في تكوين شخصية البطل للسيتي، وتمكنوا من قيادته تدريجيا للعودة لمنصات البطولات بعد غياب طويل، بداية من لقب كأس الاتحاد الإنجليزي موسم 2010-2011، والذي كان بداية الغيث في العهد الإماراتي.
ونفس الأمر مع الإيفواري يايا توريه، الذي تخلى عنه برشلونة الإسباني، فرأت فيه العقلية الإدارية المتميزة للسيتي أحد النجوم الذين يمكن أن يخدموا مشروع النادي بامتياز، فتم اقتناص الفرصة والتعاقد معه في صيف 2010.
ولم يخيب توريه ظن الإدارة العربية الطموحة، حيث بات القاسم المشترك في أغلب البطولات التي حققها الفريق السماوي حتى رحيله عام 2018 بعد سنوات من النجاح.
نوعية خاصة من اللاعبين
وبالنظر إلى نوعية اللاعبين الذين ضمهم مانشستر سيتي خلال الحقبة الإماراتية نجد أن الإدارة ركزت على شراء لاعبين يتمتعون بعقلية طموحة في المقام الأول تتفق مع سياسات النادي، وليس مجرد نجوم تشتريهم بأي مقابل مهما كان، ثم لا يحققون المطلوب في النهاية.
وضم مانشستر سيتي ديفيد سيلفا في صيف 2010، بعدما أسهم في تتويج منتخب إسبانيا بكأس العالم للمرة الأولى في تاريخه، وتبعه بضم الأرجنتيني سيرخيو أجويرو من أتلتيكو مدريد في صيف العام التالي، ومعه البوسني إيدين دجيكو هداف الدوري الألماني في الموسم السابق وقتها قادما من فريق فولفسبورج.
ولم يكن من بين هؤلاء لاعب بثمن قياسي في الكرة الإنجليزية أو الأوروبية، فلم يسجل مانشستر سيتي حتى الآن أغلى صفقة في إنجلترا أو أوروبا في أي مركز في صفوفه.
وكان الفريق اقتنص في صيف 2009 المهاجم التوجولي إيمانويل أديبايور الذي رحل عن أرسنال، ومعه لاعب الوسط الإنجليزي جاريث باري قادما من أستون فيلا في نفس التوقيت، وأعاد في صيف 2010 الحارس الواعد وقتها جو هارت، الذي قضى عدة سنوات معارا، ومعه الظهير الصربي ألكسندر كولاروف.
وضم السيتي في تلك الفترة لاعب الوسط الإنجليزي المقاتل جيمس ميلنر من أستون فيلا، وبعده الفرنسي سمير نصري قادما من أرسنال في صيف 2011.
وإذا نظرنا إلى كل هؤلاء اللاعبين نجد أنهم كانوا يتمتعون بالطموح في المقام الأول، وينتمون لأصحاب الروح القتالية العالية، وفي نفس الوقت لم يحتج التعاقد معهم إلى مبالغ طائلة، حيث إن الصفقات الأغلى من بينهم لم تتعد الـ35 مليون إسترليني، وهو ما ينطبق على عدد محدود منها.
وتكفي الإشارة إلى أن مانشستر سيتي ضم جاريث باري مقابل 10 ملايين إسترليني فقط، وتعاقد مع الإنجليزي آدم جونسون في شتاء 2012 مقابل 7 ملايين إسترليني، واللاعبان كانا أحد أعمدة الفريق في بداية تكوينه، وحققا معه عدة ألقاب.
ومع كل إضافة جديدة من اللاعبين كان الناتج يظهر سريعا ببطولة جديدة، فمع كتيبة أجويرو ونصري ودجيكو حقق الفرق ثاني ألقابه في الحقبة الإماراتية، بحصد الدوري الإنجليزي لأول مرة منذ 44 عاما، وتبعه في العام التالي بلقب الدرع الخيرية، ثم بلقب جديد للدوري في 2013-2014.
رسائل الشيخ منصور
بعد 10 سنوات كاملة من امتلاك النادي، تحدث الشيخ منصور بن زايد في خطاب العقد الأول لجماهير النادي السماوي في كل أنحاء العالم، ورد بالدليل الدامغ على أن التفوق وحصد الألقاب لم يكن متعلقاً فقط بالإنفاق، موضحا في مقابلة مع صحيفة "ديلي ميل" البريطانية: "أثبتنا أن القرار كان تجارياً استثمارياً صائباً".
وأضاف: "وضعنا الخطط المناسبة، وسعينا طوال الوقت لإكمال العمل على الوجه الأفضل، وطوال الرحلة نجحنا في وضع وتطبيق معايير جديدة في عالم الكرة، وفي نهاية المطاف أصبح كل ما قمنا به هو بمثابة معيار جديد في إدارة كرة القدم".
وأعلن مانشستر سيتي بعدها في بيان رسمي وصول أرباحه السنوية وفقاً للتقرير المالي إلى 535 مليون جنيه إسترليني، الأمر الذي يؤكد للعالم ما قاله الشيخ منصور بن زايد، ويُبرهن على نجاح الخطة الاستثمارية التي أديرت بعقل إماراتي نجح في وضع الأفضل في المكان الأمثل على مدار أكثر من 10 سنوات.
وفي المقابلة ذاتها، أشاد الشيخ منصور بن زايد بالعمل الكبير الذي يقوم به خلدون المبارك رئيس مجلس إدارة النادي، كاشفاً عن أنه يتحدث دائماً معه في كل شؤون مانشستر سيتي، موضحا: "أعتقد أن لدينا درجة مثالية من التفاهم والتناغم، وإيقاع عمل رائع".
لمسات المبارك تؤتي ثمارها
أسهمت الثقة التي حصل عليها خلدون المبارك، من الشيخ منصور بن زايد، وتعيينه رئيسا تنفيذيا للنادي، في سعي الأول بشكل حثيث لتطبيق الخطة الطموحة للإدارة بخطوات راسخة، حيث وضع الثنائي المخضرم فيران سوريانو وتشيكي بيجرستاين على رأس الإدارة الفنية لتطوير الفريق الأول وأكاديمية الناشئين في صيف 2012.
وأثبت سوريانو وبيجرستاين صحة قرار تعيينهما، واستغلا خبراتهما السابقة المكتسبة خلال فترة نجاحهما في نادي برشلونة، ليكررا النجاح بشكل مثالي مع النادي الإنجليزي الذي ولد للمرة الثانية بتوقيع الشيخ منصور بن زايد على عقد ملكيته، لكنه ولد عملاقاً يهابه الجميع.
دلائل جديدة بتوقيع إنجليزي
الصحفي سام لي واصل الاستدلال على براعة العقلية الإماراتية وقراراتها، موضحا: "لا تنفق إدارة مانشستر سيتي الأموال وتقف مع المتفرجين لتُشجع، بل على العكس، أثبت التقرير المالي السنوي أن النادي حصد أكثر من 500 مليون إسترليني أرباحا".
وتحدث عن صحة قرارات النادي في التعاقد مع المدربين، مضيفاً: "الإيطالي روبرتو مانشيني قام بتغيير عقلية الفريق، وأعاده لمنصات التتويج بعد غياب طويل، ومانويل بيليجريني قدم كرة جميلة وكان الفريق معه قاتلاً محترفاً، أما بيب جوارديولا فنجح في نقل الفريق لمستوى آخر، وحقق أرقاما قياسية لم تُحقق من قبل في البريمييرليج".
ويزيد خلدون مبارك من الشعر العذب أبياتاً، بقوله خلال مقابلة متلفزة مُعتادة للحديث مع جماهير ناديه حول العالم هذا العام: "مانشستر سيتي لم يشتر أغلى حارس مرمى في العالم، ولا أغلى مدافع، ولا أغلى لاعب وسط، ولا أغلى مهاجم".
وتابع: "في قائمة أغلى 10 لاعبين في العالم لا وجود لنادينا، عندما أسمع البعض يتحدث عن إنفاقنا الكثير من الأموال لا أنظر للأمر بجدية، وأطالب الجماهير أيضاً بذلك".
الإنفاق المدروس
ومُنذ بداية عصر الشيخ منصور بن زايد في نادي مانشستر سيتي، هُناك 4 أندية أنفقت أكثر من مليار جنيه إسترليني، وهي مانشستر يونايتد وتشيلسي وليفربول، بالإضافة إلى السيتي.
لكن إذا كان الأمر متعلقاً بالمال فهل حققت الأندية الأربعة نسباً متساوية من البطولات والألقاب والنجاحات مقارنة مع الإنفاق المادي؟ وهل هناك ثمة عوائد تجارية تزيد على حجم الإنفاق؟
ولم يكتف الشيخ منصور بن زايد بنادي مانشستر سيتي وإنجازاته، بل حفزه نجاح التجربة الإنجليزية لتوسيع الرقعة إلى أن باتت إمبراطورية مترامية الأطراف في كل أنحاء العالم، تحت مظلة شركة "سيتي فوتبول".
إمبراطورية السيتي
نادي مانشستر سيتي هو الشقيق الأكبر الآن في المجموعة الاقتصادية التي تضم أندية يوكوهاما مارينوس الياباني، ونيويورك سيتي الأمريكي، وملبورن سيتي الأسترالي، وأتلتيكو توركي الأورجواياني، وجيرونا الإسباني، وسيشوان جيونو الصيني، ومومباي سيتي الهندي.
وتأكيداً على النجاح الإماراتي في قيادة قلعة مانشستر سيتي الحصينة، نشرت صحيفة "فايناشيال تايمز" الأمريكية إحصائية لأغلى أندية العالم، احتل مانشستر سيتي صدارتها بقيمة 4.8 مليار دولار، متفوقاً على ريال مدريد وبرشلونة، وجاره مانشستر يونايتد، وبايرن ميونيخ الألماني.
جينات القائد
والآن فقط، وبعد كل تلك الأعوام المريرة التي عانت خلالها جماهير مانشستر سيتي قبل العهد الإماراتي، يمكن لـ"المواطنين" أن يناموا هانئين مطمئنين بوجود الشيخ منصور بن زايد على قُمرة القيادة في رحلة النادي المستمرة نحو مُعانقة النجوم، فقد أصبح ناديهم مثل أرض جدباء اخضرت بأمطار الربيع بعد انقشاع سحابة سوداء قاتمة دامت عشرات السنين.
وما يزيد الطمأنينة في قلوب مُشجعي مانشستر سيتي حول العالم هي تلك الرسالة التي وجهها لهم الشيخ منصور بن زايد في الاحتفال بالعقد الأول مع النادي السماوي، ضمن حواره مع "ديلي ميل"، حيث قال: "مانشستر سيتي جاء من بعيد، لكنه لم يصل بعد"، واعداً جماهير النادي بمزيد من النجاح.
العملاق النائم، كما وصفه الشيخ منصور بن زايد، لم يصبح مخيفاً لأن رصيده البنكي زاد كما يدعي البعض، لكنه عاد عملاقاً لأنه الآن يمتلك عقلاً إماراتياً طموحاً يتمتع بجينات الشيخ زايد رحمه الله، التي تتطلع لمعانقة السماء، ولا تعرف حدوداً، وتتذلل أمامها كل العقبات، وتنهار الحواجز مهما بدت عصية.