"الآتاي" الموريتاني.. الشاي بنكهة العائلة وطعم الثقافة
الموريتانيون عرفوا الشاي أواخر القرن الـ19، فأحبوه وتعلقوا به وتفننوا في أناقة وتزيين أدواته، وفي اختيار ندمائه، وفي طريقة إعداده
ليس "الشاي" بالنسبة للموريتانيين مجرد مشروب بمذاق شهي وفائدة صحية فقط، كما هي وظيفته المعهودة، بل هو تراث زاخر بالعادات والتقاليد نسجها المجتمع حول ما يدعى شعبيا بـ"الآتاي" وقصة عشق مع مشروب تغلغل في الوجدان كجزء أصيل في ثقافته وقيمه.
تعلق الموريتانيين بـ"الآتاي" انعكس في شكل طقوس خاصة، تميز إعداد المشروب الأشهر في البلاد، ووظائف خاصة لمجالسه التي تشد إليها الانتباه، عادة كحلقات أدب وثقافة، بل ومجالس يُذاع الجديد ويُحكى القديم، فيزول الهم وينقشع الغم، لتحل المتعة و المؤانسة ويطغى الحبور وينتشر السرور.
وعرف الموريتانيون الشاي مع أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، حيث جذبته إلى هذه الربوع قوافل التجار القادمة من الشمال آنذاك، وأحبوه وتعلقوا به فتفننوا في أناقة وتزيين أدواته، وفي اختيار ندمائه، وفي طريقة إعداده، كما تفنن الأدباء في وصف الشاي، ومجالسه، وعلاقته بالفتوة.
طقوس وعادات
عادات وتقاليد تصاحب إعداد الشاي، حرص على اتباعها الموريتانيون وغيرهم من الشعوب الصحراوية التي تشترك معهم في نفس النظرة لهذا الموروث، وهي شروط يصبح مجلس "الآتاي" بدونها ناقصا.
أولها وأهمها، طقوس الإعداد التي يفضل أن تظل على الشكل التقليدي، باستخدام الجمر لغلي الإبريق أو ما يسمى "البراد" ثم تقديم الكؤوس على 3 مراحل في جلسة واحدة تكون أصلا هي الهدف من إعداد "الآتاي" كفرصة لنقاش موضوع معين عن مجال للسمر واللهو بين المجتمعين.
ومن عادات الموريتانيين الثابتة حول "الآتاي" وتلك الطقوس التي تحقق نكهته ما يعرف بالجيمات الثلاثة، "جمر" و"جر" وتعني عدم الإسراع في إكمال توزيع كؤوس 3 مرات في جلسة واحدة، بالإضافة إلى "جماعة" وهي بيت القصيد أصلا لأهمية الموضوع أو للمتعة والفائدة المرجوة من ورائه.
ويولي الموريتانيون أهمية خاصة لطريقة تحضير "الآتاي"، وهي تبدأ بإحضار الإبريق والكؤوس وصحون أخرى يتم من خلال بعضها توزيع الكؤوس على الحضور، ثم خلط كمية من الشاي كما يسمونه (الوركه) وكمية من الماء.
يترك هذا المخلوط ليغلي على النار لمدة 10 دقائق، وبعدها تضاف إليه كمية من السكر والنعناع، ويتم تدويره بين الكؤوس مرات عديدة، وبظهور رغوة داخل الكؤوس تكون العملية قد تمت.
بعدها، يتم توزيع كؤوس الشاي على الحضور، ومن عادات الموريتانيين أن يتم في البداية توزيع الكؤوس على الرجال الأكبر سنا، ثم بقية الحضور من الشباب والنساء.
لا تخلو المجالس الموريتانية من الشاي، أو "الآتاي" إذ به تطيب النفوس ويحلو الحديث على رشفاته المنغمة، ويتساوى في عشقه بين الصغار والكبار، النساء والرجال، الوجهاء والفقراء، ويقدمه الموريتانيون بفخر للضيوف، كتقليد اجتماعي يحيل إلى جزء كبير من هويتهم وموروثهم الثقافي والقيمي.
شعر
عشق الموريتانيين للشاي صيغت من أجله قصائد المديح من الشعر الفصيح الشعبي، امتنانًا لهذا المشروب الذي يعوضهم وحشة الصحراء، وطربًا بنشوة تناوله التي لا تضاهيها نشوة مشروب.
يقول شاعرهم:
ألا فاسقني كأساتِ شاي ولا تذرْ
بساحتها من لا يعين على السمر
فوقت شراب الشاي وقت مسرة
يزول به عن قلب شاربه الكدر
ويقول آخر:
أتايُنا (شاينا) منْه فمُّ المَرْءِ يَحْتَرِقُ
قد طابَ سُكَّرُهُ والمَاءُ والورَقُ
باتَ المُبارَكُ يَسْقِينَا علَى مَهَلٍ
واللَّهْوُ مُجْتَمِعٌ والهَّمُّ مُفْتَرَقُ
لا يزال الشاي في وقتنا الحاضر يفرض جزءا مهما من طقوسه، ويلعب أدواره المعهودة في المجتمع الموريتاني رغم تطور وسائل العصر، وتبدل الظروف، وحوله تجتمع العائلة 3 مرات في اليوم، وعلى إيقاع كؤوسه تلتئم جلسات تدبير الهم العام، في المحافل المختلفة.
خصوصية الشاي بالنسبة للموريتانيين عكستها نتائج دراسة حديثة أكدت أن نسبة استهلاكه في المجتمع تبلغ 99%، بوصفه المشروب الذي يتناوله السكان مرات عديدة في اليوم وفي جميع الأوقات.
وأوضحت الدراسة التي نشرت نتائجها على شبكة الإنترنت أن 64.6% من المستجوبين يتناولون الشاي أكثر من 3 مرات يوميا، بينما 27% منهم يتناولونه مرتين، و8.4% يتناولونه مرة واحدة فقط.
وتباينت آراء المشتركين -بحسب الدراسة- حول نوعيات الشاي التي تباع في موريتانيا بين 12 نوعا للشاي، وأجمع المشاركون على نقاط مشتركة لنوعية وجودة الشاي، وهي الوسطية في التركيز، أي ألا يكون شديد السواد أو رقيقا، وأن يكون مميزا بلذته ونكهته، وأن يحتفظ بطعم وذوق الشاي الأصيل، وأن يساعد على الهضم.