ماوكلي 2018 يتجاوز تصنيفه العمري ليطرح سؤال الهوية
فيلم "ماوكلي" يحافظ على حبكة حكاية الصبي وسط الأدغال، كما نعرفها جميعنا، لكن ينبش المعاني التي تكمن بين سطورها
قبيل مشاهدة الفيلم الأمريكي "ماوكلي: أسطورة الغابة" (Mowgli: Legend of the Jungle)، بنسخة الممثل والمخرج الإنكليزي آندي سركيس، التي بدأت "نيتفلكس" بعرضها 7 ديسمبر/كانون الأول الجاري، لا بد أن يراودنا سؤالان، أولهما عن الجديد في معالجة حكاية الصبي ماوكلي الذي تربيه الذئاب في الغابة، والتي نعرفها جميعاً سواء من سلسلة من القصص القصيرة التي كتبها المؤلف روديارد كيبلينج، وجمعت لاحقاً في كتاب نُشر في العام 1894، أو خلال أفلام الرسوم المتحركة التي شاهدناها مدبلجة، ونحن أطفال.
أما السؤال الثاني فهو عن الجديد المختلف في فيلم سركيس عن فيلم "كتاب الأدغال" (The Jungle Book) المأخوذ عن الأصل الأدبي نفسه، والذي أنتجته "ديزني" من إخراج جون فافرو، وعرضته في أبريل/نيسان 2016، وهل يمتلك القدرة على المنافسة وتحقيق ما حققته ديزني قبل عامين، حين حصد فيلمها إيرادات ضخمة جعلته الرابع في ترتيب الأفلام الرابحة خلال العام 2016، وفي المرتبة 31 في تاريخ السينما، فضلاً عن نيل جائزة الأوسكار لأفضل مؤثرات بصرية في حفل توزيع جوائز الأوسكار التاسع والثمانين.
عملياً جرى العمل على الفيلمين في وقت واحد تقريباً، والبعض يقول إن نسخة سركيس سبقت بتحضيراتها نسخة ديزني 2016، وبكل الأحوال يقول مخرج "ماوكلي" آندي سركيس في حوار صحفي، رداً على سؤال بشأن العلاقة بين الفيلمين: "أعتقد أنه إذا كنت ستضع (ماوكلي) بجانب فيلم ديزني، فلن تفكر في أن القصة ذاتها. إنها تعمل في مجال مختلف تماماً، وأي عمل كلاسيكي يستحق إعادة التفسير، فكم، على سبيل المثال، عدد المعالجات الدرامية التي رأيناها، من قبل، لمسرحية هاملت".
مقارنة بالأصل بالأدبي، يبدو فيلم "ماوكلي" مخلصاً للكتاب، لا لشخصياته وبناء حكايته فقط وإنما لمنطق كاتبه أيضاً وزمن كتابته، فهو يحافظ على حبكة حكاية الصبي وسط الأدغال، كما نعرفها جميعنا، ولكن ينبش المعاني التي تكمن بين سطورها، ويعيد ترتيبها في سيناريو على نحو يصح القول إن هناك عتبات للتلقي في نص "ماوكلي"، فظاهر الحكاية تبدو صالحة لتصنيف عمري (+13) وفق ما حدده الفيلم، لكن ثمة ما هو أعمق من أن يدركه طفل الثالثة عشرة، أو يكون عايشه بالأساس، إنه سؤال الهوية، إذ يبدو الصبي "ماوكلي" ممزقاً بين هويتين، هل ينتمي إلى عالم البشر أم إلى عالم الحيوانات؟، ونتابع هذا بالفيلم، كيف يعيش أسير هذا السؤال ومكابدته.
يترك ماوكلي قطيع الذئاب، في نسخة ديزني، لأنه لا يريد أن يتأذى أحد بسببه بعد تهديد شيرخان لهم بسبب وجوده، لكنه في فيلم "سركيس" نجده يغادر القطيع بحثاً عن ذاته التي لم يستطع أن يجدها وسط قطيع الذئاب، ومع دخوله قرية البشر يعود ليبحث عن ذاته أيضاً وسطهم، لقد كان في الغابة يختلف عمن حوله في الشكل ويتقاطع معهم بالسلوك، وها هو وسط البشر يجد نفسه بين من يشبهونه بالشكل ويختلفون عنه بالسلوك، وفي العالمين ثمة من يرفضه، وثمة من يحنو عليه، لكن من أي العالمين هو؟.
بحثاً عن الجواب، يمر وعي ماوكلي بتحولات عديدة فيما يخص مفهوم الانتماء، حين يزوره "باغيرا"، النمر الأسود، في قرية البشر، ويكون وقتها أسير قفص حديدي ومعاناة من سوء المعاملة، إذ يقول له: "الأدغال هي دياري، لا أستطيع البقاء هنا"، وما أن تتحسن معاملة الناس من حوله ويبدأ بالشعور بالأمان والثقة تجاههم، يخبر أخاه الذئب الذي جاءه طالباً النجدة: "هذه دياري الآن"، في إشارة إلى قرية البشر، لكن ماوكلي سرعان ما يدرك طبيعة انتمائه، فيصرخ لاحقاً في وجه قائد الذئاب "أكيلا"، قائلاً: "أنا لست من البشر ولست ذئباً أيضا".
في تحول ماوكلي الدراماتيكي الأخير يكمن المعنى الذي لم تلتقطه نسخة ديزني، رغم أنه يكمن بين سطور الأصل الأدبي المأخوذ عنه الفيلمين، فصرخة ماوكلي بأنه ليس بشراً وليس ذئباً هو بيان إدانة للوحشية والقتل في عالمي الحيوان والإنسان معاً، وهذا ما سيعيه الصبي الصغير بعد أن يكتشف ما فعله الصياد بصديقة الصغير "Bhoot " وبقية الحيوانات التي صادها وحنطها، فيقرر قتله، ولكنه حين يشرع بتنفيذ ما عزم عليه، سيلاحظ آثار أظافر النمر شيرخان في جسد الصياد، وسيتذكر كيف أن تلك الأظافر لطالما هددته بالقتل بعد أن نهشت جسدي والديه يوماً ما.
هكذا تكتمل الصورة في ذهن ماوكلي، إنه يرفض فقط الانتماء إلى الجانب الموحش من عالمي الحيوان والبشر، وما قراره بالتخلص من شيرخان، والاتفاق مع الفيلة بتسليمهم الصياد لقتله سوى رغبة منه في تخليص الجانب المسالم في كلا العالمين من الشرور حولهما، إنها صرخة من الفيلم ضد القتل والصيد الجائر، وصرخة أعلى في وجه أولئك الذين يقضون مضاجع السلام في العالم.
من يعرف حياة صاحب الأصل الكلاسيكي للحكاية، أي مؤلف الكتاب روديارد كيبلينج، ويعرف تفاصيل حياته الممزقة بين الهند وبريطانيا وما عاناه في هذه الأخيرة، وكيف قضى حياته يبحث عن معنى الانتماء بين هذين البلدين، لا بد أن يدرك معنى قولنا إن المخرج آندي سركيس، كان في فيلمه "ماوكلي" مخلصاً لمنطق كاتبه.
ولعل فهمنا لمعنى أن يخلص الفيلم أيضاً لزمن كتابته، يكمن في مقاربة علاقة ماوكلي مع الصياد الأبيض وما فعله هذا الأخير بأصدقائه الحيوانات على نحو يحاكي سلوك السياسات التي انتهجتها بريطانيا خلال فترة استعمارها للهند، وهي الفترة الزمنية ذاتها التي كُتبت فيها قصص "كيبلينج".
في الحقيقة الفيلم لا يخلص فقط لمنطق حياة كاتب الأصل الأدبي المأخوذ عنه فقط، وإنما يخلص لمنطق حياة مخرج الفيلم نفسه، أي، آندي سركيس البريطاني، الذي هجرت الحرب والدكتاتورية عائلته من العراق، فالذئب الذي يأتي إلى قرية البشر ليستنجد بالصبي ماوكلي، يخبر الأخير أن شيرخان هجر قطيع الذئاب من ديارهم، وأن هؤلاء يخشون الأذى من البشر في مكان لجوئهم الجديد، كما أنهم يتعرضون لحالة من الترهيب من أبناء قطيعهم نفسه ممن أيدوا شيرخان، ألا يبدو سير الحكاية على هذا النحو محاكاة لواقع وطن المخرج، وما عاناه من الدكتاتورية في الحرب والاحتلال، ولاحقاً التهجير ومعاناتها؟.
يستحق فيلم "ماوكلي" الوقوف ملياً عند جوانبه الفنية أيضاً، ربما يتاح لنا في مقالة أخرى، تناولها نقدياً، ولا سيما أن مخرج الفيلم آندي سيركيس، هو الممثل المعروف بتقديم شخصيات من خلال صوته وأدائه الحركي التفاعلي، ليتم لاحقاً إنشاء هذه الشخصيات وتكوينها عبر الكمبيوتر فيما يعرف بتقنية (CGI)، اعتماداً على تقنية أخرى هي التقاط الحركة، وتسمى اختصاراً بـ"Mocap"، وهي التقنية التي تشكل عصب العملية الفنية في تنفيذه لفيلم "ماوكلي".