لا يخفى أن الجهات التي حضّرت الوثيقة وأعلنتها قد استحضرت في إعدادها صحيفة المدينة التي وضعت أول دستور يقنن قيم التعايش الديني.
لا شك أن وثيقة مكة الصادرة عن تجمع واسع من علماء الإسلام في الأيام الأخيرة من شهر رمضان المبارك في أقدس بقعة من بقاع الأرض، حدثٌ تاريخي حقيقي في هذه اللحظة الحرجة، التي يعرف فيها العالم الإسلامي وضعاً استثنائياً، من حيث أزماته الداخلية وعلاقاته بالعالم.
ولا يخفى أن الجهات التي حضّرت الوثيقة وأعلنتها قد استحضرت في إعدادها صحيفة المدينة التي وضعت أول دستور يقنن قيم التعايش الديني في إطار المصالح المشتركة والقيم الجامعة، فكان حريا بالمدينة المقدسة التي هبط فيها الوحي وظهرت فيها الرسالة الخاتمة أن تحتضن هذه المبادرة المهمة، التي هي رسالة السلم والتسامح التي يوجهها المسلمون للعالم.
حاصل الأمر أن وثيقة مكة وجهت إعلاناً تاريخياً للإنسانية في مواجهة خطاب الكراهية والتعصب الذي يهدد في أيامنا السلام العالمي ومستقبل البشرية.
في هذه الوثيقة، التي سلمها أمين عام رابطة العالم الإسلامي الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى، ورئيس هيئة الإفتاء في دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ عبد الله بن بيه، للملك سلمان بن عبدالعزيز، بنود أربعة تشكل مرتكزات هذا التوجه الحضاري العقلاني، الذي اعتبر صديقنا رضوان السيد أنه في طور تأسيس سردية إسلامية جديدة، تتجسّد في العديد من المبادرات الكبرى التي تبلورت في السنوات الأخيرة، مثل إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي، وحلف الفضول الجديد للتسامح والتضامن، ووثيقة أبوظبي للأخوة الإنسانية.
أول هذه البنود هو فكرة الأخوة الإنسانية، أي التشديد على الأصل المشترك للبشر وما يقتضي هذا الوعي بوحدة الأصل من اعتراف بكرامة الإنسان، من حيث هو خليفة الله في الأرض ومستودع أمانته، بما يمنع كل الأفكار والمواقف العنصرية الاستعلائية ومشاعر الكراهية والتعصب. وغني عن البيان أن النزعة الإنسانية الحديثة التي ظهرت في عصور النهضة الأوروبية، وشكلت محور فكر التنوير المعاصر تتأسس في مرجعيتها العميقة على هذه الخلفية العقدية التي ترجع للديانات التوحيدية، وهي أوضح وأجلى في ملة الإسلام لتعميم مبدأ الاصطفاء على عموم البشر ورفض احتكاره على شعب مختار أو مجموعة بشرية أو دينية بعينها. ومن هنا تأكيد الوثيقة على مدونة حقوق الإنسان ومنع انتهاك هذه الحقوق التي هي ترجمة مبدأ التكريم والأخوة الذي سنّه الشرع وفرضه.
أما ثاني هذه المرتكزات فهو مبدأ الاختلاف المشروع والتنوع الديني والعقدي الذي هو قدر إلهي بلفظ النص، بما يترتب عليه من قبول التعددية وتنظيمها بالاستناد إلى قيم التعايش المشترك الجامعة التي تكفل التعاون على الخير والتضامن في الحقوق العادلة. وتتعين الإشارة هنا إلى أن الوثيقة تجاوزت الحدود الدنيا لمقولة التسامح في مرجعيتها الحديثة التي لا تتخطى فكرة التعايش والقبول بالتركيز على قيمة التضامن والتآزر التي تؤسس لمعايير التفاعل الإيجابي والتعاون الوثيق في الحقوق والواجبات. ومن هنا رفض شعارات الصدام الحضاري والصراع الثقافي التي انتشرت على نطاق واسع في السنوات الماضية في نسختيها: الاستراتيجية الغربية والأيديولوجية الإسلامية في التقائهما في النظر لعامل الاختلاف الديني مقوماً للهوية المغلقة العاجزة عن التواصل مع الآخر، في تعارض تام مع مفهوم الكونية الإنسانية الذي هو الخاصية الكبرى للديانة التوحيدية.
أما المرتكز الثالث فهو مبدأ أولوية السلم في العلاقات بين البشر والأمم والدول ورفض ظواهر التطرف والإرهاب والعنف، التي ابتليت بها منطقتنا والعالم في السنوات الأخيرة. السلم بهذا المعنى يستند إلى مرجعية عقدية ومعيارية عميقة وصلبة لها أصلها في أسماء الله وصفاته العليا من حيث هو السلام الرحيم، وقد أقام صلته بخلقه على أساس العدل والأمن والمودة. وإذا كانت بعض الأدبيات الاستشراقية القديمة التي لها صداها في الكتابات السيارة الراهنة تذهب إلى خلو الإسلام من قيمة الحب المركزية في المسيحية، ومن معايير أخلاق الضمير التي تعوضها الشريعة بالأوامر القانونية العليا، فالحقيقة التي لا غبار عليها هي أن مقولة الرحمة أوسع مدى من اعتبارات الحب بل تستوعبها وتتجاوزها كما أن مبدأ التعالي الإلهي لا يلغي علاقة القرب والود بين الرب وعبده التي صاغها متصوفة الإسلام في لغة العشق والفناء.
أما المرتكز الرابع فهو رفض الإسلاموفوبيا التي هي نزعة عنصرية بغيضة، وليست مظهراً لحرية التفكير أو التعبير، ذلك أن المدار فيها ليس نقد جوانب من اعتقادات المسلمين أو ثقافتهم (وهو ما ألفه المسلمون وتعاملوا معه منذ يوحنا الدمشقي في العصر الأموي إلى الاستشراق الحديث)، بل ربط سلوكيات شاذة لدى بعض غلاة المسلمين ومتعصبيهم -وهم قلة قليلة- بجوهر الدين الإسلامي وتعميم هذه السلوكيات والأفكار الشاذة على عموم المسلمين، بما لا يختلف في شيء عن نزعة العداء للسامية أي الكراهية العنصرية لليهود التي هي جريمة قانونية في كل التشريعات الدولية.
وحاصل الأمر أن وثيقة مكة وجهت إعلاناً تاريخياً للإنسانية في مواجهة خطاب الكراهية والتعصب الذي يهدد في أيامنا السلام العالمي ومستقبل البشرية.
نقلاً عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة