حدث في رمضان.. "فتح مكة" يوم أعز الله الإسلام وأهله
فتح مكة من أعظم انتصارات المسلمين التي ارتبط حدوثها بشهر رمضان؛ فقد وقع في يوم 20 من شهر رمضان الكريم عام 8 هجريا.
فتح مكة من أعظم انتصارات المسلمين التي ارتبط حدوثها بشهر رمضان؛ فقد وقع في يوم 20 من شهر رمضان الكريم عام 8 هجريا، وكان خير دليل على رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما عفا عن قريش الذين آذوه وحاربوه، وقال لهم كلمته التي سطرها التاريخ بأحرف من نور: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟". قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم. قال: "فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: (لا تثريب عليكم اليوم)، اذهبوا فأنتم الطلقاء".
بداية.. تعرض النبي ومن آمن معه في بداية الدعوة إلى الإسلام للإيذاء الشديد طوال 13 عاما من مشركي قريش في مكة؛ ما اضطر النبي وصحابته للهجرة من مكة إلى المدينة، ولم يكن ترك النبي صلى الله عليه وسلم لمكة بالأمر السهل على نفسه العظيمة، فقد عبَّر النبي صلى الله عليه وسلم عن مشاعره تجاه مكة بلد الله الحرام بكلماته العظيمة: "أما إنك لأحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إليَّ، ولولا أن قومك أخرجوني منكِ ما خرجت".
وبعد الهجرة لم يستطع النبي وأصحابه العودة إلى هناك مرة أخرى، ولم يتمكنوا من الحج لسنوات عديدة، وذلك خوفا من غدر المشركين، وفي إحدى الليالي رأى الرسول في المنام أنه يدخل إلى مكة المكرمة مع مجموعة من الصحابة، فطلب في اليوم التالي من أصحابه أن يستعدوا لزيارة مكة المكرمة لأداء العمرة، وأثناء مسيرته إلى مكة المكرمة وصل الخبر إلى أهل قريش، فأسرعوا بإرسال خالد بن الوليد مع مجموعة من المشركين من أجل محاربة الرسول وأصحابه وصدهم عما جاءوا من أجله، ولكن الرسول اتخذ طريقا أبعد من أجل تفادي مواجهة خالد وأصحابه.
وبعد أن وصل الرسول وأصحابه إلى منطقة الحديبية وحط بها، وكان الرسول لا يحمل معه أي سلاح سوى الأسلحة التي يحملها المسافر وهي السيف، وصل أمرهم لأهل قريش فبدأوا بإرسال الرسل إلى الرسول محمد، وكان النبي يجيب في كل مرة أنه جاء قاصدا زيارة بيت الله من أجل أداء العمرة، وأنه لم يأتِ من أجل قتال، ولكن قريشا كانت خائفة منهم كثيرا؛ فأرسل النبي إليهم عثمان بن عفان من أجل مفاوضتهم، وبدأت تنتشر أخبار بأن عثمان بن عفان قتل على أيدي المشركين، وهنا بدأ الغضب يدب أوساط المسلمين، وفي تلك اللحظات قام الرسول بعقد مبايعة على من كان معه، وأطلق على هذه البيعة اسم (بيعة الرضوان).
ولكن بعد التأكد من سلامة عثمان بن عفان، قامت قريش بإرسال رسولها سهيل بن عمرو من أجل توقيع صلح مع الرسول محمد وأصحابه يسمى صلح الحديبية، ويتضمن هذا الصلح عدة بنود؛ منها "منع الحرب لمدة 10 سنوات، وأن يعود المسلمون ذلك العام ولا يعتمرون على أن يدخلوا مكة معتمرين في العام المقبل، وعدم الاعتداء على أي قبيلة أو على بعض مهما كانت الأسباب، وأن يرد المسلمون من يأتيهم من قريش مسلما بدون إذن وليه، وألا ترد قريش من يعود إليها من المسلمين، وأن من أحب أن يدخل في حلف الرسول دخل ومن أراد أن يدخل في حلف مكة وقريش دخل"، فدخلت خزاعة في حلف الرسول، ودخل بنو بكر في حلف قريش.
غضب عمر بن الخطاب وبعض الصحابة من بعض شروط الصلح، ولم يكن يدور في خلد عمر بن الخطاب الفوائد الجمة التي سيجنيها المسلمون والدعوة الإسلامية من صلح الحديبية؛ لذلك فلقد حزن منها في بادئ الأمر، حتى نزل القرآن يصف الصلح بأنه فتح مبين، وحقا كان فتحا مبينا لأنه كان السبب المباشر لفتح مكة.
نقض شروط الصلح
كان هناك عداوات قديمة قبل مجيء الإسلام بين خزاعة وبني بكر، وفي شهر شعبان 8 هـ اعتدت بنو بكر على خزاعة، وأعانت قريش بني بكر على ذلك بالسلاح والرجال، وذلك يُعَد خرقا لبنود المعاهدة والصلح؛ لأن الاعتداء على الحليف بمثابة اعتداء على من يحالفه، وهذا الاعتداء يعد مباشرة على الرسول والمسلمين، خاصة أن الإسلام قد فشا وانتشر في خزاعة وقُتل في هذا الاعتداء رجال من المسلمين.
وسرعان ما أحست قريش بخطئها وغدرها، فخافت من عواقبه الوخيمة؛ فبعثت قائدها أبا سفيان ليجدد الصلح، لكنه لم يفلح، ثم قرر النبي صلى الله عليه وسلم رد العدوان وأخذ القرار الكبير بالسير لفتح مكة، ثم تجهز وأمر الصحابة بالاستعداد وتجهيز العدة، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة.
استعداد المسلمين للخروج
جهز الرسول نفسه وجهز صحابته من أجل فتح مكة، ولكن أبقى الأمر سرا لم يخبر به أحدا، حتى أبو بكر الصديق وابنته عائشة، فقد كان الرسول يحاول إخفاء الأمر عن الجميع من أجل إنجاح الأمر، وفتح مكة بسهولة، وقد قام بعمل حالة من التمويه على أهل قريش حتى لا يصلهم خبر أن الرسول جاءهم ليغزوهم، فقد أرسل سرية إلى منطقة بطن إضم، حتى يظن البعض أن هذه المسيرة من أجل بطن أضم، وبعد أن بدأ الرسول بالتحرك نحو مكة قام أهل بطن أضم بإرسال رسالة إلى قريش مع امرأة من أجل إخبارهم بنية النبي فتح مكة، ولكن الوحي أخبر الرسول بذلك، فقام بإرسال اثنين من الصحابة إلى مكان هذه المرأة وأخذا الرسالة منها غصبا.
سير الرسول والصحابة إلى مكة المكرمة
جهز الرسول جيشا من آلاف الصحابة، وخرجوا قاصدين مكة المكرمة، وكانوا صائمين، حتى وصلوا إلى بئر وأفطروا هناك، وأفطر معهم الرسول، وجلسوا في منطقة الجحفة، وهناك لقيهم العباس بن عبد المطلب الذي كان قد هاجر من مكة مع أولادهم، فسعد الرسول لرؤيته كثيرا.
وخرج أبو سفيان وعبد الله بن المغيرة، ولقيا الرسول عند منطقة العقاب، فأرادا الدخول إلى رسول الله، فرفض الرسول، ولكن رق قلبه فيما بعد، فأدخلهما إليه، جاءوه معتذرين ومسلمين، فعفا الرسول عنهم، وقبل أعذراهم.
وعندما وصل الرسول إلى مكة المكرمة، كان قد جهز الجيش جيدا من أجل دخول مكة من جميع الجهات، فقد قسم الجيش إلى عدة أقسام، وعلى كل قسم أمير لهم، من أجل دخول مكة، ومن ثم دخل أبو سفيان إلى مكة صارخا في أهلها: "يا أهل قريش إن محمدا قد جاءكم بما لم يأتكم به من قبل، فمن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن"، فهرع الناس إلى بيوتهم وإلى المسجد وإلى بيت أبي سفيان.
دخل الرسول وأصحابه مكة من جميع جهاتها، وكانت هذه بمثابة الضربة القاسية لأهل قريش، حيث إنهم لم يتمكنوا من مقاومة المسلمين أو ردهم عما جاؤوا من أجله، وهنا دخل المسلمين مكة، مكبرين مهللين، ومن ثم دخل الرسول خافضا رأسه، ومرددا سورة الفتح، وحامدا الله على هذا الكرم الذي أخص به المسلمين.
بعد أن أمن الناس إلى الرسول وأصحابه، خرجوا من بيوتهم واتجهوا إلى الكعبة، وكان الرسول يطوف حول الكعبة وبيده قوس يهدم به جميع الأصنام التي تقابله، ودخل إلى داخل الكعبة وقام بهدم جميع الأصنام الموجودة فيها، ومن ثم أمر بلال بن رباح أن يصعد إلى الكعبة ويرفع الأذان منها، وكان يردد "ظهر الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا".
العفو النبوي
بعد أن صلى الرسول صلى الله عليه وسلم داخل الكعبة فتح بابها ثم أخذ بعضادتي الباب وخطب فيهم ثم قال: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟" قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، قال: "فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته (لا تثريب عليكم اليوم) اذهبوا فأنتم الطلقاء".
لم يمنع هذا العفو العام إهدار دماء رجال من أكابر المجرمين الذين كانت عداوتهم وشرورهم أكبر من غيرهم، منهم عكرمة بن أبي جهل وعبد العزى بن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهم، وبلغ عددهم 9 نفر، 6 من الرجال و3 من النساء، ولكن الرسول عفا عن بعضهم.
أثناء طواف النبي صلى الله عليه وسلم بالكعبة جاء رجل من قريش اسمه فضالة بن عمير وكان جريئا وأراد أن يغتال النبي وهو في الطواف، ولكن الله عز وجل أطلع رسوله على الأمر فنادى الرسول على فضالة وأخبره بما في نفسه فأسلم فضالة من فوره.
كان هذا الفتح من أعظم انتصارات المسلمين وبشارة عظمى بقيام دولة الإسلام في أقوى صورها وإيذانا بغروب شمس الكفر والشرك في شبه الجزيرة العربية والعالم من بعدها.