أزمة الكوادر في بريطانيا.. نقص الأطباء وهجرة العقول تهدد بانهيار المنظومة الصحية

تشهد هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية (NHS) واحدة من أعمق أزماتها منذ تأسيسها، مع تزايد النقص في أطباء الأسرة والمقيمين، وتنامي الاعتماد على الكوادر المهاجرة، وسط تحذيرات نقابية من انهيار كامل للمنظومة الصحية.
كشف تحليل لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) عن أن الطبيب الواحد في إنجلترا بات يتحمل مسؤولية رعاية 17% من المرضى أكثر مما كان عليه الوضع قبل 9 سنوات، إذ ارتفع متوسط عدد المسجلين لدى الطبيب الدائم إلى أكثر من 2300 مريض، بزيادة 350 مريضًا مقارنة بعام 2015.
وفي بعض المناطق، بلغت الأرقام مستويات مقلقة؛ ففي ثوروك (إسيكس) وصل المعدل إلى 3431 مريضًا لكل طبيب، يليه ليستر (3262) وبلاكبيرن (3218)، بينما لم تتجاوز الأعداد 1850 في مناطق مثل ويرال وستوكبورت.
الخبراء اعتبروا هذا التفاوت "غير مبرر" ويهدد صحة المرضى، خصوصًا في المناطق الفقيرة التي تواجه أصعب ظروف الوصول إلى الرعاية. وحذرت البروفيسورة كاميلا هوثورون، رئيسة الكلية الملكية لأطباء الأسرة، من أن الأعداد الحالية "غير قابلة للإدارة" وتلقي "أثرًا مدمرًا" على صحة السكان.
تراجع الرضا العام
تقرير "نوفيلد ترست" أشار إلى أن الفئات الأكثر ضعفًا – مثل ذوي الإعاقة ومحدودي الدخل ومَن لا يتحدثون الإنجليزية – تتحمل العبء الأكبر من الأزمة. وتراجعت معدلات الرضا عن خدمات أطباء الأسرة إلى أدنى مستوى تاريخي، حيث ينتظر واحد من كل ستة مرضى أكثر من أسبوعين للحصول على موعد.
ورغم إعلان الحكومة خططًا لزيادة تدريب الأطباء وتوسيع أدوار الصيادلة في علاج بعض الأمراض البسيطة، إلا أن عدد الأطباء الدائمين انخفض بألف طبيب منذ 2015، ما أبقى "باب الدخول" إلى المنظومة الصحية تحت ضغط متصاعد.
تحذيرات نقابية: "الخدمة الصحية في أزمة عميقة"
في اجتماع استثنائي للجمعية الطبية البريطانية (BMA)، حذر رئيسها الدكتور توم دولفين من أن الـNHS يواجه "أزمة عميقة" تهدد مستقبل الرعاية الصحية. وقال إن المرضى يواجهون فترات انتظار "تُقاس بالسنوات" للحصول على مراجعات في المستشفيات، بينما يقضي عشرات الآلاف أكثر من 24 ساعة في أقسام الطوارئ قبل نقلهم إلى العنابر.
وأضاف أن "العقد الاجتماعي بين المهنة الطبية والمجتمع قد انكسر"، وأن المرضى لم يعودوا يحصلون على الرعاية التي اعتادوا عليها من قبل، مؤكداً أن "استمرار الأزمة سيؤدي إلى وفيات يمكن تفاديها". وانتقد دولفين خطة الحكومة العشرية، معتبرًا أن أهدافها في تعزيز الرعاية المجتمعية والرقمنة والوقاية لن تنجح دون تمويل كافٍ وتوظيف فعلي للأطباء.
أزمة توظيف تدفع نحو الإضراب
الأزمة لم تتوقف عند أطباء الأسرة؛ فالأطباء المقيمون يلوّحون بإضراب وشيك. فقد أعلنت الجمعية الطبية البريطانية أن أكثر من نصف أطباء التدريب (Foundation Year Two) بلا وظائف مضمونة، فيما أظهر مسح أن 34% منهم بلا عمل ثابت، لترتفع النسبة إلى 52% بين أطباء الـFY2.
وأطلقت الجمعية، في 8 سبتمبر/ أيلول، تصويتًا لحسم قرار الإضراب، على أن تُعلن نتائجه في 6 أكتوبر المقبل. وحذرت هيئة الـNHS كونفدرشن من أن أي إضراب جديد سيضاعف التحديات في الشتاء، مع ارتفاع معدلات العدوى الموسمية ونقص الكوادر، مؤكدة أن "المرضى سيكونون المتضرر الأكبر".
الاعتماد المتزايد على الأطباء المهاجرين
في موازاة ذلك، يزداد اعتماد بريطانيا على الأطباء الأجانب لتغطية العجز المحلي. وبحسب "التليجراف"، من بين 28,564 طبيبًا سُجلوا للعمل العام الماضي، تلقى ثلثاهم تدريبهم خارج البلاد. ومنذ 2016، بقي عدد الأطباء القادمين من المنطقة الاقتصادية الأوروبية ثابتًا عند 2500 تقريبًا سنويًا، فيما ارتفع عدد القادمين من بقية دول العالم بنسبة 400% ليصل إلى 16,913 طبيبًا.
في المقابل، لم يرتفع عدد الأطباء المتدربين محليًا سوى من 7,180 إلى 9,285 فقط، ما أدى إلى انخفاض نسبتهم بين المسجلين الجدد من 56% إلى 32.5%.
مخاوف بشأن معايير الكفاءة
هذا التحول أثار جدلاً واسعًا حول معايير التقييم وجودة التدريب. وأوضح البروفيسور كارول سيكورا أن اختبارات المعرفة للأطباء الأجانب "أبسط بكثير" من تلك المخصصة للطلاب البريطانيين، لافتًا إلى أن وفرة الدورات الإلكترونية سهّلت اجتيازها. وانتقد جراحون سابقون اعتماد الاختبارات على "الأسئلة متعددة الخيارات" بدل تقييمات أعمق للمهارات السريرية.
تتجاوز الأزمة الجانب المهني لتثير قضايا أخلاقية، إذ تُتهم بريطانيا بخرق مدونة منظمة الصحة العالمية التي تدعو لعدم استقطاب الكوادر الطبية من الدول النامية. وتشير البيانات إلى أن نسبة كبيرة من الأطباء الجدد يأتون تحديدًا من بلدان تعاني أصلاً من عجز صحي، ما يفاقم معاناتها.
الدكتورة لطيفة باتيل، رئيسة الهيئة التمثيلية للجمعية الطبية البريطانية، قالت إن "سنوات من التخطيط غير المسؤول للقوى العاملة جعلت المملكة المتحدة لا تدرب ما يكفي من الأطباء"، مؤكدة أن "النظام المحلي الذي يُفترض أن يرفد الـNHS بالكفاءات في حالة انهيار".
ردًا على هذه التحذيرات، أعلنت هيئة الخدمات الصحية الوطنية خطة طموحة لمضاعفة مقاعد كليات الطب بحلول عام 2032. وأكدت أماندا بريتشارد، الرئيسة التنفيذية للهيئة، أن الهدف هو "تعزيز الاعتماد على الخريجين المحليين وتقليل هشاشة النظام أمام تقلبات سوق العمل العالمي".
من جانبه، شدد وزير الصحة ويس ستريتنج على أن الـNHS سيبقى منفتحًا على الكفاءات الدولية، لكنه أقرّ بأن "الاعتماد المفرط على الهجرة بات يشكل خطراً على استقرار المنظومة".
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTAg جزيرة ام اند امز