البديل الآخر الذي راهنت عليه تركيا هو نقل غاز شرق المتوسط مع تزايد الاكتشافات
بدا رد الفعل التركي عصبيا بشأن حقوق التنقيب عن الغاز الطبيعي واستخراجه في البحر المتوسط، ثم أيضا من طريقة نقل الغاز. ويعود ذلك إلى عدد من العوامل التي ترى تركيا أنها تتحدى تخطيطها الطويل المدى، وتضعف من قدراتها ومكانتها على خريطة القوى -بالمعنى الشامل للكلمة- سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي.
ويمكن إيجاز بعض من هذه العوامل على النحو التالي:
هناك أولا الموقف التركي المباشر من جزيرة قبرص، فمع اكتشاف الغاز في حقل أفروديت في قبرص منعت أنقرة مؤخرا سفينة الحفر التابعة لشركة إيني الإيطالية من الدخول للعمل في الحقل، تحت دعوى أن هناك حقوقا للشطر التركي ولا بد من موافقته قبل بدء الحفر. وقد أدى هذا الموقف إلى تصاعد الخلاف التركي مع الاتحاد الأوروبي؛ لعضوية قبرص في الاتحاد.
ومن جهة ثانية، تعتمد تركيا على الخارج في تأمين أكثر من 75% من احتياجاتها من مواد الطاقة (من النفط والغاز)، ويأتي ذلك في ظل تزايد حاجات تركيا بشكل خاص للغاز الطبيعي في وقت عدم توفر أي احتياطيات محلية منه.
إذ بلغ الاستهلاك التركي من الغاز خلال العام الماضي مستوى قياسيا قدره 53.4 م3، بنسبة زيادة 16.3% عن عام 2016، كما أوضحت وكالة الأناضول التركية في تقرير لها يوم 21 فبراير 2018. ويعود ذلك إلى زيادة توليد الكهرباء والنقص الحادث في توليد الكهرباء من المساقط المائية، إضافة إلى استخدام الغاز في التدفئة شتاءً.
تفاوضت أنقرة مع تل أبيب بعد اكتشاف حقلي تمارا وليفاثان الإسرائيليين على إنشاء خط أنابيب غاز من إسرائيل لتركيا، ومع إقرار الصفقة الإسرائيلية المصرية مؤخرا لتسييل الغاز الإسرائيلي ونقله للسوق الأوروبي خسرت تركيا مراهنتها على هذا البديل وهو ما أثار هياجها ضد عمليات استكشاف واستخراج ونقل الغاز في شرق المتوسط.
وقد زادت الواردات التركية بنسبة 19.2% في العام الماضي لتبلغ 55.2 مليار م3، بعد أن كانت تبلغ 46.3 مليارا فقط في عام 2016.
والأمر المهم في هذا السياق هو الاعتماد التركي البالغ على روسيا في إمدادها بمواد الطاقة، وخاصة من الغاز الطبيعي؛ إذ تُعد تركيا ثاني أكبر سوق للغاز الروسي بعد ألمانيا.
وقد بلغت واردات تركيا من الغاز الطبيعي الروسي 28.6 مليار م3 خلال العام الماضي تمثل نحو 51.8% من جملة الواردات، ومن المقرر أن تزيد هذه النسبة كثيرا مع الانتهاء من إنشاء خط أنابيب "السيل التركي" والمخطط له نهاية العام المقبل، حيث سينقل الخط في مرحلته الأولى نحو 15.75 مليار م3 سنويا من الغاز الروسي لتركيا.
إلى جانب ذلك، استوردت تركيا في العام الماضي عن طريق الأنبوب الإيراني-التركي 9.2 مليار م3 وعن طريق أذربيجان 6.5 مليار م3. أما باقي كمية الواردات فكانت من الغاز المسال من عدة مصادر على رأسها قطر والجزائر.
وثالثا ينبغي الانتباه إلى أن تركيا سعت منذ وقت طويل نسبيا إلى الاستفادة من المزايا التي يوفرها لها موقعها الجغرافي بين المنتجين والمستهلكين الرئيسيين للغاز، فأقدمت على تبني مبادرات مختلفة لكي تخدم كممر لنقل النفط والغاز الطبيعي من روسيا وبلدان الاتحاد السوفيتي السابق. وكانت آمال تركيا عريضة في أن تصبح محورا رئيسيا في جيوسياسية الطاقة؛ من أجل تحقيق هدفين رئيسيين:
أن تزيد من أمن الطاقة لديها (لاعتمادها البالغ على روسيا)، حيث يصعب على روسيا اتخاذ قرار بوقف ضخ الغاز لأي سبب من الأسباب الخاصة بالعلاقات الثنائية؛ إذ إن خطوط الأنابيب المقترحة لنقل النفط والغاز كان من المخطط اتجاهها لأوروبا، وفي هذه الحالة تصبح مشكلة وقف ضخ الغاز مشكلة روسية-أوروبية وليست روسية-تركية، وعلى غرار ما حدث سابقا بشأن خطوط الغاز الطبيعي الروسية التي تتجه إلى أوروبا عبر أوكرانيا.
أما الهدف الآخر، فهو أن تحتل تركيا كمحور للطاقة مرتبة مهمة استراتيجيا لأوروبا، مما قد يسهل لها عملية الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، وهو ما تسعى له منذ أبريل/نيسان 1987.
وكانت تركيا تستغل في ذلك عضويتها في حلف الناتو، وعلاقتها الوثيقة بالدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، مما قد يدفعها نحو توثيق التعاون مع هذه البلدان عن طريق عبور الطاقة لأراضيها. وكان هذا الهدف أيضا محل اهتمام شديد من الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة التي عمدت إلى استخدام التعاون في مجال الطاقة باعتباره أداة استراتيجية لعملية تشكيل التحول السياسي في البلدان المستقلة حديثا عن الاتحاد السوفيتي، وتسهيل اندماج هذه البلدان في الاقتصاد العالمي. وقد تُرجم هذا الهدف في استراتيجية أنابيب متعددة، أو ما عُرف بممر الطاقة "الشرق-الغرب"، أي إنشاء خطوط أنابيب للنفط الخام والغاز الطبيعي من الإقليم لتأمين مداخل غير منقطعة، وكبدائل عن الشبكة الموجودة التي تسيطر عليها موسكو، إلى جانب إقصاء إيران من مشروعات الطاقة الإقليمية. ومن منظور الولايات المتحدة، فإن طرق أنابيب النفط والغاز اعتُبرت عاملا حاسما سوف يؤثر في التوجه الجيوسياسي في بلدان آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين.
وكانت الأهداف العريضة لممر الشرق-الغرب تتماشى مع التوجه الجيوسياسي التركي في تحقيق التعاون مع البلدان المستقلة حديثا عن الاتحاد السوفيتي، والتي ترتبط بعضها بتركيا بروابط إثنية ولغوية ودينية، أي كنافذة لمدّ نفوذها ولعب دور القيادة الإقليمية.
إضافة إلى ما سبق فقد كان هناك طموح أن يمتد خط الغاز الإيراني-التركي لأوروبا فيما بعد، مع التوسع في إنتاج الغاز الإيراني.
بل كانت هناك خطط في السابق لنقل الغاز المصري عبر ما يسمى بخط الغاز العربي، والذي أنشئ عام 2003 حينما كان يظن أن هناك احتياطيات ضخمة في مصر. حيث يمر الخط من مصر إلى الأردن فسوريا ثم تركيا ومنها لأوروبا.
إلا أن الخطط التركية في هذا المقام، وخاصة في مجال الغاز الطبيعي وُوجهت بمعارضة من الاتحاد الأوروبي، وهو ما دفع روسيا إلى تطوير خطط مدها للغاز لأوروبا عن طريق خط بديل هو "السيل الشمالي" بأنابيب تمر تحت بحر البلطيق لتتجه لألمانيا.وقد اكتمل هذا الخط عام 2012 وبدأت تصدر عبره 55 مليار م3 سنويا لألمانيا.
ومع تعثر خطط مدّ الغاز عبر تركيا قامت روسيا وشركاء أوروبيون بتدشين مشروع "السيل الشمالي 2" لينقل نفس الكمية التي ينقلها الخط الأول، وهو تحت الإنشاء حاليا.
كان البديل الآخر الذي راهنت عليه تركيا هو نقل غاز شرق المتوسط مع تزايد الاكتشافات سواء لاستخدامها المحلي وتعزيز أمنها في مجال الطاقة، أو لنقله عبرها لأوروبا. وقد تفاوضت أنقرة مع تل أبيب بعد اكتشاف حقلي تمارا وليفاثان الإسرائيليين على إنشاء خط أنابيب غاز من إسرائيل لتركيا، ومع إقرار الصفقة الإسرائيلية المصرية مؤخرا لتسييل الغاز الإسرائيلي ونقله للسوق الأوروبي، خسرت تركيا مراهنتها على هذا البديل، وهو ما أثار هياجها ضد عمليات استكشاف واستخراج ونقل الغاز في شرق المتوسط.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة