لعله أهم لقاء في طريق الأخوة الإنسانية، ذاك الذي يُعقد مرة كل عام في مدينة "ريميني" على ساحل البحر الأدرياتيكي في إيطاليا.
وذلك تحت عنوان "لقاء ريميني"، والذي شهد في الفترة الممتدة من 20 إلى 25 أغسطس/آب الجاري نسخته الثالثة والأربعين، والتي حملت عنوان "شغف الإنسان"، وضمّت وفودًا من معظم دول العالم، وقد كان الحضور العربي هذا العام مشهودًا وفاعلا.
جاء اللقاء هذه السنة، وفي الخلفية التاريخية ثلاثة أعوام من جائحة "كوفيد-19"، ثم الحرب الروسية-الأوكرانية، عطفًا على الأزمة الإقتصادية العالمية، الأمر الذي ألقى بظلال كثيفة من المخاوف والهواجس، ولا يزال، على البشرية برمتها، ما طرح علامة تساؤل مثيرة ومقلقة معًا: "إلى أين تمضي الإنسانية معًا؟ وهل هي في طريق النجاة أم بات الغرق قدرًا مقدورًا في زمن منظور؟
في الرسالة، التي وجهها البابا فرنسيس للقائمين على لقاء "ريميني" للصداقة بين الشعوب، يستشعر المرء روح وثيقة الأخوة الإنسانية، تلك التي تم توقيعها على أرض الإمارات العربية المتحدة، خلال زيارة البابا فرنسيس التاريخية للإمارات في فبراير/شباط من عام 2019، والتي سيبقى أثرها فاعلا عبر الزمان والمكان.
يشير فرنسيس الفقير وراء جدران الفاتيكان إلى حال العالم، الذي ضربته الهشاشة، وساده إحساس الوحدة خلال السنوات الأخيرة، وغاب نموذج "السامري الصالح"، أي الآخر الذي يده تُنهضك وتُعانقك وتُشعرك بقربه كأخ وشريك في مسيرة الحياة الوعرة، ذاك الذي ينحني على المُهانين والمجروحين، ويصب زيتًا على جراحاتهم ويعتني بهم.
وفي الرسالة عينها يذكرنا الرجل ذو الثوب الأبيض بما أورده في الرسالة العامة، "كلنا أخوة"، بأن النظر إلى الآخر لا ينبغي أن ينطلق من وجهة أديب فرنسا الوجودي جان بول سارتر، والذي رأى الجحيم متمثلا فيه، بل يتوجب أن يندفع من الشغف غير المشروط بكل أخ وأخت يتم اللقاء بهم على طول مسيرة الإنسانية، وفي سياق من الأخوة والصداقة الاجتماعية، وموصيًا بالاعتناء بشكل خاص بالضعيف، رجلا كان أو امراة، طفلا أو مُسنًّا، وإظهار موقف تضامني واضح للعيان.
وبالنظر إلى أحوال العالم عامة، والقارة الأوروبية خاصة، يدرك المرء أهمية "لقاء ريميني" لهذا العام، والذي شارك فيه رئيس الوزراء الإيطالي، ماريو دراجي، والمفوض الأوروبي للشؤون الاقتصادية، باولو جينتيلوني، بالإضافة إلى وزيرة تكافؤ الفرص والعائلة، إيلينا بونيتي، ورئيس مجلس أساقفة إيطاليا، الكاردينال ماتيو ماريا زوبي.
أما الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، ففي رسالته لرئيس مؤسسة الصداقة بين الشعوب، برنارد جوزيف شولتز، توقف عند جزئية مهمة للغاية، وهي كيف يمكن للمجتمعين في "ريميني" أن يسهموا في نمو مجتمعنا الإنساني من خلال استقطاب ضمير العديد من الشباب حول العالم، بوصفهم المحرك الرئيس لجدلية التاريخ، ومعتبرًا أن كرامة الإنسان والدفاع عنه وأهميته مبادئ سامية تكتسب في هذه الأزمنة قيمة أهم من أي وقت سابق.
كانت أوروبا حاضرة في كلمات "ماتاريلا"، لا سيما في ضوء التراجع التاريخي عن حالة السلام، التي عرفتها بعد انكسار النازية في الحرب العالمية الثانية، وقد نهضت القارة القديمة من خلال نبذ إرادة السلطة والحرب، والتخلي عن الفكر الشمولي والأيديولوجيات التي تركز على التفوق العرقي والقومي.
عبر خمسة أيام، هي عمر لقاء "ريميني"، تبين جليّا لكل الحضور أهمية الرؤية، التي تدور حول ضرورة توافر أجواء السلام والتعايش الديمقراطي، والتعاون بين الشعوب، وشيوع وذيوع العدالة الاجتماعية واحترام كل شخص في حريته وحقوقه وتنوعه، كواجب ينبع من ضمير وأعمق رغبة لدى الأفراد والجماعات.
وفي المناقشات، التي دارت في قلب الندوات وتعقيبا على الكلمات المهمة التي ألقيت، ظهرت إشكالية التحديات التي تواجه عالمنا المعاصر عن قرب، وفي مقدمتها القدرة على التضامن في أوقات المحن، وقبول الآخر، والاندماج ضمن الجماعة البشرية، وكذا إحساس العدالة، الذي لا يجب أن يتسامح مع حالات زيادة الفقر، واستمرار حالات التهميش للأوساط الفقيرة بين الشعوب.
كان من الطبيعي كذلك، وفي ضوء الأزمة الروسية-الأوكرانية، فضلا عن التبعات التي تترتب على الأوضاع الجيوسياسية، استضافة عدد من الأشخاص القادمين من أوكرانيا وروسيا، والذين قدّموا شهاداتهم، وفيها سلطوا الضوء على الجذور الثقافية الأوروبية المشتركة.
"شغف الإنسان".. عنوان "لقاء ريميني" الثالث والأربعين لم يغفل مناقشة التحديات الإيكولوجية، لا سيما وأن اللقاء يأتي في أوقات أوروبية عصيبة، ربما لم تشهد مثلها منذ عدة مئات من الأعوام، تتمثل في جفاف الأنهار وظهور ما أطلق عليه "أحجار الجوع"، الأمر الذي ولّد مخاوف عميقة، عطفًا على أزمة الطاقة المتوقعة على أبواب الشتاء، وبخاصة في ظل التوجه الروسي لحرمان أوروبا من المزيد من الغاز.. كلها مشاعر تقوم على منهجية سارترية، تدفع العالم في طريق الصراعات الوجودية وليس الحدودية فحسب.
هذا الفكر هو ما توقف عنده أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان للعلاقات مع الدول، وزير الخارجية، رئيس الأساقفة بول ريتشارد غالاغر، والذي أكد أن البشرية اليوم مدعوة -أكثر من أي وقت مضى- إلى تعزيز ذهنية السلام والأخوة الإنسانية، وإلى رفض استمرار الحرب أو القبول بها كأمر اعتيادي، لا سيما أن جائحة "كوفيد-19"، والحرب الأخيرة، قد وسّعتا الفجوة من خلال تراجع المسيرة نحو إنسانية أكثر اتحادًا وتضامنا.
هل من خلاصة لهذا الحدث المهم للغاية في حركة التاريخ المعاصر، لا سيما لدول "المتوسط"؟
باختصار غير مُخلٍّ، يمكن القطع بأن درب الأخوة ليست مرسومة على الغيوم، فهي تمر بالصحاري الروحية الكثيرة الموجودة في مجتمعاتنا، لكن علينا أن نعبرها ونحن محمّلين بفضائل الرجاء والمحبة.
الأخوة الإنسانية هي الحل لخلاص العالم من الشرور والأهوال.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة