أغرب تداعيات تغير المناخ.. منتجع إيطالي يتزحزح إلى سويسرا بين ليلة وضحاها
تأثيرات على الحدود التاريخية بين الدول
في ليلة وضحاها وجد صاحب منتجع تزلج بإيطاليا مباني مشروعه باتت جزءًا من أراضي سويسرا ورهينة لأزمة دبلوماسية بين بلدين والسبب تغير المناخ.
طالما شغلت أزمة تغير المناخ أذهان الخبراء باعتبارها مؤثرة على تصاعد العنف والأزمات بين البلدان المتجاورة أو داخل المجتمعات.
لكن هذه المرة، تقود أزمة تغير المناخ دولتي إيطاليا وسويسرا إلى أزمة فريدة من نوعها، وصراع من نوع آخر، بعدما انصهرت الأنهار الجليدية في جبال الألب خلال عام 2022، بشكل غير مسبوق، بسبب ارتفاع درجات الحرارة، ما أدى لتغيير بعض ملامح الحدود بين البلدين، مما قد يخلق أزمة سياسية ودبلوماسية.
يمتد الخط الحدودي بين البلدين على طول المنطقة التي تتدفق فيها المياه الذائبة على جانبي جبال الألب سواء باتجاه سويسرا أو إيطاليا.
ومع تراجع نهر ثيودول الجليدي في سويسرا، تسللت المياه الذائبة نحو منتجع “ديل كيرفينو” الإيطالي الذي بني عام 1984، والقريب من قمة “تيستا غريجيا” الجبلية، ليصبح ثلث المنتجع اليوم تابعًا للأراضي السويسرية الجنوبية من الناحية الفنية.
تصدر المنتجع وأخباره المثيرة للجدل اهتمام الرأي العام الأوروبي، بعدما كشف عن تأثير جديد لتغير المناخ على الحدود التاريخية والمستقرة للبلدان، ما قد يؤدي إلى تفاقم الصراع الدبلوماسي بين الدول المتجاورة.
- لماذا يضرب الجفاف المناطق الأكثر فقرا في العالم؟.. دراسة تجيب
- الفحم الحيوي «كنز» بقايا المحاصيل.. فوائده للزراعة والمناخ
ذوبان الأنهار الجليدية
تتجه الأنهار الجليدية في جبال الألب إلى تسجيل أكبر خسائر في كتلتها خلال 60 عاما على الأقل.
شهدت جبال الألب موجتين حارتين شديدتين في أوائل صيف 2022، ومثلهما في صيف 2023، إذ بلغ الارتفاع الذي تجمدت عنده المياه 5.1 ألف متر، مقارنة بمستوى الصيف الطبيعي الذي يتراوح بين 3 إلى 3.5 ألف متر تقريبا.
معظم الأنهار الجليدية الجبلية، من مخلفات العصر الجليدي الأخير، تتراجع بسبب تغير المناخ، لكن تظل الأنهار الجليدية الجبلية في الألب الأكثر تأثرا بتغير المناخ بسبب صغر حجمها وحجم غطائها الجليدي.
ترتفع درجات الحرارة في جبال الألب بمعدل 0.3 درجة مئوية خلال كل عقد من الزمان، أي ما يقرب من ضعف المتوسط العالمي، وهو ما يزيد مخاطر ذوبان الأنهار الجليدية.
قد تفقد الأنهار الجليدية في جبال الألب أكثر من 80% من كتلتها الحالية بسبب تغير المناخ بحلول عام 2100، بصرف النظر عن أي إجراءات عالمية ستتخذ لمواجهة الأزمة العالمية، وفق تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة الصادر عام 2019.
أثارت الموجات الحارة التي شهدها العالم خلال العام الماضي والجاري قلقًا بالغًا من احتمالية اختفاء الأنهار الجليدية بجبال الألب في وقت أقرب من المتوقع.
قال رئيس شبكة مراقبة الأنهار الجليدية السويسرية، ماتياس هاس، إنه لم يتوقع أن نشهد مثل هذا العام الصعب في هذا الوقت المبكر من القرن.
اتفاق حدودي
لقرون، كان الوضع الحدودي بين إيطاليا وسويسرا مستقرًا، حيث أبقت الأنهار الجليدية سويسرا على جانب واحد من جبال الألب وإيطاليا على الجانب الآخر.
يتشكل ثلثا هذه الحدود بين البلدين كفجوة من مستجمعات المياه المتجمدة، وتمثل الفجوة خطاً نظرياً معلقاً بين التلال الجبلية، وحقول الجليد الدائمة والقمم الجليدية.
تذوب تلك الأنهار الجليدية التي تفصل بين البلدين الأوربيين، بهدوء منذ عقود، وسوف يختفي أكثر من نصفها بحلول عام 2050، وفق دراسات متخصصة.
لذا في عام 2009، ناقشت سويسرا وإيطاليا لأول مرة مسألة تغير الحدود مع ذوبان الأنهار الجليدية التي ترسم الحد الفاصل بينهما، وأقرا بأن حدودهما ستتحرك، ولا بد أن يتعايشا مع ذلك، وانتهت باتفاقية مشتركة تقر بتغيير الحدود.
وقال آلان ويتشت، أحد المفاوضين، وكبير مسؤولي الحدود في وكالة رسم الخرائط الوطنية السويسرية: "اتفقنا على تقسيم الفارق بيننا.. لم يخرج أي من الطرفين فائز من المفاوضات، لكن على الأقل لم يخسر أحد".
الحدود المتحركة
ظهرت فكرة الحدود المتحركة في سبعينيات القرن الماضي، عندما لاحظ المكتب الفيدرالي النمساوي للمسح والقياسات أن الأنهار الجليدية في منطقة أوتزتال في جبال الألب لا تبدو كما كانت في الصور القديمة في أرشيف المكتب.
أدى ذلك إلى اتفاقية صيغت في العقد التالي تلزم الدول بقبول التغييرات في حدودها بناءً على عواقب تغيرات المناخ، بغض النظر عن الدولة التي ستستفيد من هذا التغيير أو الدولة التي ستفقد مساحة من أراضيها.
تعترف الاتفاقية بأن هذه التغييرات قد تؤدي إلى توترات ونزاعات حدودية بين الدول، خاصة الأوروبية، بسبب طبيعتها الجغرافية والمناخية.
رغم أن هناك أيضًا استراتيجيات لتثبيت الحدود الطبيعية، إلا أنها مكلفة جدًا، ولن تتمكن معظم دول العالم من تحملها.
نفذت الولايات المتحدة والمكسيك في الستينيات واحدة من تلك الاستراتيجيات، عندما اتفقا على بناء قناة ملموسة لمنع نهر ريو غراندي، وهو نهر يتدفق من جنوب غرب كولورادو في الولايات المتحدة ويصب في خليج المكسيك، من تغيير مساره بشكل أكبر، فيغير معه الحدود.
بغض النظر عن التكلفة المرتفعة، قد تتمسك بعض البلدان بحدودها الهيدرولوجية القديمة، ما يجعل نشوب الصراعات أمر وارد.
هذه الأمور تخلق واقعًا جديدًا يصطدم به العالم في الآونة الأخيرة، حيث إن السمات الجغرافية التي بدت ذات يوم، وكأنها حدود طبيعية مثالية وثابتة، أصبحت الآن غير مستقرة بطبيعتها، ومن المرجح أن تصبح أكثر تقلبًا في المستقبل، بسبب تغيرات المناخ.
في كتاب صدر عام 2018 بعنوان “حدود متحركة: رسم خرائط جبال الألب بعد تغير المناخ” يشير مؤلفو الكتاب، وهم ماركو فيراري وأندريا باجناتو، مهندسان معماريان، وإليسا باسكوال، مصممة بصرية، إلى أن الاتفاقات الحدودية التقليدية ليست بالضرورة صالحة للتعامل مع هذا النوع من التغيير البيئي.
يطرح الكتاب مسألة الحدود المتحركة باعتبارها حل وسط قابل للتطبيق، ما يسمح للبلدان بالاحتفاظ بالتخطيط العام الخاص بها مع التخلي عن الإحداثيات الدقيقة.
عالم الأنثروبولوجيا بن أورلوف، من كلية المناخ بجامعة كولومبيا قال: “هذه التغيرات التي فرضها الواقع الحالي، توضح مدى جمود مؤسساتنا وسياساتنا، التي طُورت نفسها على أساس مناخ عالمي ثابت لا يتغير، فلم يتخيل أحد في الماضي أن تغيرات المناخ ستؤثر على الحدود الوطنية، لذا نحن بحاجة لقوانين جديدة، لأن العديد من القوانين الآن لا تصلح لعالمنا الجديد”.
منتجع يتحرك من مكانه
تغيرت الحدود بين إيطاليا وسويسرا في أكثر من مائة مكان وفق عدد من الدراسات الحديثة، مما تسبب في تحرك منتجع تزلج إيطالي من مكانه، وأصبح جزءًا منه على الأراضي السويسرية، وبات بين ليلة وضحاها يقع في سويسرا وإيطاليا في آن، ويمر عن طريقه الخط الحدودي الجديد الذي رسم تلقائيًا بعد تحرك الحدود.
قال مدير ومالك المنتجع، لوسيو تروكو: "المنتجع إيطالي بلا شك، وخرائط غوغل على الإنترنت تؤكد ذلك".
أضاف: "لكن الشريط الحدودي الواضح خارج المنتجع اختفى تمامًا مع ذوبان الجليد، واعترفت السلطات المحلية في البلدين بأن الخط الحدودي القديم لم يعد يفصل بينهما؛ ومع ذلك، لا يوجد اتفاق حتى الآن على الوضع الجديد".
أوضح: ”جاء السويسريون وقالوا إن المنتجع صار سويسريًا، وبعد أسبوع، جاء الإيطاليون وقالوا إنه إيطالي؛ لكن المكان لا يزال يعمل ويقدم نفسه للزبائن كمنتجع إيطالي، حيث يتقاضى الرسوم من العملاء باليورو، ويدفع الضرائب للسلطات الإيطالية، لكن أي أمور أخرى تتعلق بوضعية المنتجع لا تزال غامضة”.
يواجه المنتجع مشاكل وأزمات عدة بسبب هذا الوضع الملتبس، فالبلديات الإيطالية والسويسرية المجاورة تتقاذف مسؤولية تراخيصه، وكل بلدية في الدولتين ترفض إصدار تراخيص بناء في المواقع الحدودية المتنازع عليها.
قال تروكو: "أصبح إجراء عمليات تجديد وتطوير للمكان لغزاً إدارياً شديد الغرابة، كما أن البنوك الإيطالية تتردد في دفع أية تمويلات لمثل هكذا مشروعات".
رغم رغبة وحرص الحكومات المحلية في البلدين على التعاون، لكنهم لم يتمكنوا حتى الآن من وضع حلول حاسمة للأزمة، لتهدئة مخاوف المالك المتعلقة بأمور خدمية كالمياه والكهرباء وغيرها.
يتمسك الجانب الإيطالي بأن سياسة الحدود المتنقلة لا تنطبق على منتجع التزلج المتضرر، وأن الاتفاقية كانت مخصصة فقط للأراضي الجبلية الشاغرة، وأن المفاوضين الأصليين ربما أغفلوا هذا المنتجع ببساطة.
بالإضافة إلى ذلك، يؤكد الجانب الإيطالي أن اتفاقية الحدود المتحركة الموقعة بين إيطاليا وسويسرا، تتعلق صراحةً بالتغير المناخي “التدريجي” و “الطبيعي”، وليس “التغيير المفاجئ من صنع الإنسان”، مثل بناء سد أو منصة رفع تزلج.
لا ينفي الإيطاليون أن ذوبان الأنهار الجليدية في منطقة تيستا جريجيا، التي تحتضن المنتجع، قد تأثر بارتفاع درجات الحرارة، لكنهم يؤكدون في نفس الوقت أن الذوبان قد تم بوتيرة أسرع بسبب النشاط المستمر على المنحدرات الذي يقوم به عملاء المنتجع، بما في ذلك الاستمالة على الجليد ليلاً والتزلج الصيفي.
صراع دبلوماسي بسبب المنتجع
في 2018، بدأت مفاوضات دبلوماسية جديدة بين البلدين حول ملف الوضع الحدودي للمنتجع، الذي شهد زخمًا سياسيًا في البلدين.
أعلنت السلطات الإيطالية موقفها علنًا على لسان السياسي المحلي أوغوستو روليندين في اجتماع إقليمي بوادي أوستا العام الماضي، والذي حذر قائلاً: “إننا نجازف بفقدان إحدى جواهر جبلنا”.
أضاف روليندين: “أحد أعضاء مجلس الشيوخ الإيطالي، الذي تبنى قضية المنتجع لسنوات، أخبرني أن المنتجع ينتمي بشكل لا لبس فيه إلى إيطاليا، وفي حال تنازلنا عنه لسويسرا يجب أن نحصل على مقابل جيد”.
ناقش ستة مندوبين سويسريين وسبعة مندوبين إيطاليين العام الماضي، مستقبل منتجع جبال الألب في اجتماع كبير في فلورنسا.
ساد الاجتماع “جو بناء وودي”، وفقًا لبيان صادر عن وكالة الخرائط السويسرية، وأرسل مسؤول سويسري رفيع رسالة نصية بعد المحادثات قال فيها: “إن المفاوضات ستنجح بين البلدين”.
تؤكد كل من وكالتي رسم الخرائط الإيطالية والسويسرية أن التنازل عن المنتجع بالكامل لسويسرا سيكون نتيجة غير مرغوب فيها وغير مرجحة.
رغم ذلك، يدرس الجانبين الآن الوضع بشكل علمي للوصول إلى اتفاق جديد، فإذا كانت العوامل البشرية الأخرى هي السبب الرئيس في ذوبان الجليد كما يدعي الإيطاليين، وليس تغير المناخ، فمن المتوقع أن يبقى المنتجع إيطاليًا كما كان، ولن تضطر روما إلى التخلي عن أي شيء في المقابل، أما إذا كانت العوامل المناخية هي السبب، سينضم المنتجع لسويسرا، وربما تطالب إيطاليا بالمقابل.
اختتمت المفاوضات الرسمية بشأن المنتجع في منتصف العام الماضي، باتفاق مقترح لحل الأزمة.
حتى الآن، ينتظر الاتفاق مصادقة الحكومة السويسرية، ووفق رويترز، لن يدخل الاتفاق حيز التنفيذ أو تعلن تفاصيله كاملة علنًا قبل نهاية 2023 على الأقل.
وحتى يأتي ذلك الحين، سوف يظل مالك المنتجع غارقًا في قلقه من احتمالية أن ينتهي بمنتجعه المطاف إلى سويسرا، حيث ارتفاع تكاليف المعيشة والضرائب في البلاد، ما يعني أنه سيضطر لرفع ثمن كوب القهوة من 2 يورو إلى 4 يورو، وقد يتسبب ذلك في فقدانه العديد من زبائنه القدامى.
لكنه رغم القلق، يحاول التكيف مع الوضع الحالي والاستفادة منه بالقدر الممكن، لحين البت في أمر منتجعه، وقرر على إثر ذلك، تقسيم المطعم إلى نصفين بشكل دائم، نصف في سويسرا، بقائمة طعام مخصصة للسويسريين تحمل الأكلات المحببة لديهم، والنصف الأخر للإيطاليين بقائمة وأصناف مختلفة.
aXA6IDMuMTQzLjIzLjM4IA== جزيرة ام اند امز