"ترميم الذاكرة".. تمجيد النسيان في كتاب بحريني
الكاتب البحريني حسن مدن يروي تجربة جيل الأحلام القومية في سيرة عن لعبة الذاكرة والنسيان عبر كتاب جديد "ترميم الذاكرة"
يتفادى الكاتب البحريني حسن مدن في كتابه: "ترميم الذاكرة" الصادر مؤخرا في طبعة جديدة عن دار مسعى للنشر، الإشارة الواضحة إلى أن ما يكتبه في الكتاب هو سيرة ذاتية، وينحاز أكثر إلى تعبير "الذكريات" كمفردة تلائم حسه الانتقائي، فيما يريد الوقوف أمامه من مشاهد وأفكار وأماكن.
ويؤكد الكتاب أن النسيان هو أيضا ذاكرة، فهو مثلها وسيلة للحفاظ نلجأ إليه ووسيلة للهرب من حضور الذاكرة لكنه أشد مكرا، وأننا عادة لا ننسى وإنما نتظاهر بالنسيان.
حسن مدن كاتب وسياسي بحريني معروف، يكتب مقالا يوميا، وينشر في عدة صحف داخل مملكة البحرين وخارجها، وقبل هذا الكتاب نشر 9 مؤلفات من أبرزها "خارج السرب" الثقافة في الخليج أسئلة برسم المستقبل، تنور الكتابة، الكتابة بحبر أسود.
يتساءل الكاتب في مقدمة الكتاب عن الدوافع التي تبقي مشاهد بعينها حية وساطعة في ذاكرة تواجه دائما أزمة النسيان، لافتا إلى أننا لا نصف ما نرى، وإنما ما نتذكر، لأن الذاكرة هي ما يصف، وهي التي تعيد صياغة الأشياء بعد أن نصبح على مسافة كافية منها، وتلك المسافة كافية لإشعال الحنين إليها.
ويستعير الكاتب مقولة للكاتب جراهام جرين يقول فيها "إذا أدركك الحنين إلى مكان، فلا تعد إليه أبدا".. لذلك لا يمكن النظر لما يرد في الكتاب بوصفه استعادة ذكريات أو أماكن أو أحداث؛ لأن الذكرى نفسها لا تستعاد -كما يقول المؤلف- حتى لو تيسرت لها كل الظروف لأننا في حال الاستعادة نكون أمام حدث جديد يؤسس لذاكرة جديدة.
ويصف الكاتب الذاكرة كأنها "دهاليز أو غرف مغلقة" ندخلها ونحن نتحسس خطواتنا بحثا عن الأشياء الوديعة التي خلفناها هناك قبل أن نصل إلى "صقيع الروح"، على حد تعبير الكاتب.
ويلفت النظر في الكتاب الثقافة الموسوعية للكاتب الذي لا يمل من استعادة استشهادات من نصوص أدبية أو أفلام ولوحات فنية تدعم فكرته عن الذاكرة، ويصهرها جميعا في نسيج واحد كاشف عن براعة الكاتب في الانتقال من فكرة إلى أخرى دون أن يفقد الخيط الرئيس لسرديته التي يرغب في تأسيسها، كما لا يفقد القارئ متعته في تتبع السير المضمرة في التجارب الحياتية المتعددة التي عاشها الكاتب وتفسر ولعه بالحكايات التي تتدفق داخل النص بجمال لافت.
ورغم أن خبرة الكاتب تأسست على تجارب السفر والترحال -وربما على مضض - إلا أنه يبدي انحيازا لفكرة الوطن على الأقل لأن "لكل شعب حكايته الخاصة عن نفسه وعن بلده وقد تكون حكاية حقيقية ولكن قد يذهب الخيال أقاصيه فيخترع أسطورة جميلة، تؤكد أن الأوطان تجمع بين الحكاية والأسطورة وهذا سر تأسست عليه فكرة الوطن".
وانطلاقا من نظرة فلسفية واضحة تهيمن على الكتاب، يتناول مدن مفهومه للزمن وهو مفهوم يقوم على المجاز كذلك في إيمان الكاتب بأننا لا نختبر الزمن إلا في ما يتركه من آثار على الأجساد والوجوه، وخارج تلك الآثار لا نعثر على أثر للزمن ولا نمسك به، لكننا نحسه في الأطفال وقد غدوا فتيانا، فهو نحن وقد أصبحنا آباء وأمهات".
يرى الكتاب أن مشكلتنا حين نبتعد عن أماكن الولادة ليست مع المكان لأننا قادرون على التكيف وإنما المشكلة تأتي من الشعور العميق بالغربة الداخلية، أو ما يسميه "غربة الروح".
ويروى الكاتب أطيافا من ذكريات عاشها خلال سنوات دراسته بالبحرين قبل انتقاله للدراسة والعيش في القاهرة بمنحة من حكومة أبوظبي خلال سبعينيات القرن الماضي بكل ما كانت تمثله من ذاكرة راسخة بفضل قواها الناعمة وتاريخها مع الحداثة الذي سبق الآخرين.
ويتوقف الكاتب أمام زعامة جمال عبدالناصر كحالة نموذجية للكايرزما السياسية التي أثرت في جيله كله قبل تراجع الأحلام القومية إثر توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" التي جعلت أبناء نفس الجيل يعايشون ما يسميه "صحوة الموت" مع توقف المد القومي.
كما يروي الكاتب تجارب العيش في أكثر من عاصمة عربية منها القاهرة وبغداد وبيروت ودمشق وموسكو ثم الشارقة، وعبر هذه التجارب يؤكد أن هذا الفقد المتتالي للمدن ليس فقدا شخصيا، لأنه في العمق فقد جماعي لجيل بكامله عاش صعود أحلامه وانكساراتها أيضا.
aXA6IDMuMTI5LjQ1LjE0NCA= جزيرة ام اند امز