هناك مقولات لا تبرح الذاكرة أبداً لجمالها ولا تمر بالبال دون أن تخلق للإنسان منعطفاً مختلفاً يجعله يرى الدنيا من زاوية جديدة
هناك مقولات لا تبرح الذاكرة أبداً لجمالها ولا تمر بالبال دون أن تخلق للإنسان منعطفاً مختلفاً يجعله يرى الدنيا من زاوية جديدة، تماماً كتلك المقولة القائلة:«من شمعة واحدة تستطيع إشعال آلاف الشموع دون أن ينقص ذلك من عمر الشمعة الأولى شيئاً، تماماً كالسعادة لا يمكن أن تنقص عندما نتشاركها مع الآخرين» !.
إنّ الخير لا يُعتبر خيراً ما لم يمسّ حياة الغير ويؤثر بها إيجاباً، الخير ليس ما تجمع ولكن ما تُعطي وليس ما تكنز ولكن ما تساعد به، لن يُنظَر للإنسان بعد رحيله إلى كم جَمَع من الثروات ولا كم كَدَّس من الأموال ولا كم امتلك من القصور، لن يجعل ذكره يمرّ بالخير واسمه بالدعاء له إلا ما أنفقه في وجوه الخير وما عمله لمساعدة الآخرين، وهو الأمر الذي أتى من السماء لضرورة تعاهده قبل أن يفوت الأوان ويندم الإنسان حين لا ينفع الندم: «وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول ربّ لولا أخّرتني إلى أجلٍ قريبٍ فأصّدّقَ وأكُن مِن الصالحين».
نعتب على أولئك الأثرياء الذين ينزوون في الزوايا المظلمة ويختبئون في الصفوف الخلفية كلما كان الموقف يحتاج وقفة جديرة بحجم الوطن
قبل أيام كان عددٌ من خيرة رجال الأعمال بالدولة يعرضون خطة صندوق خيري على صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في برزة الاثنين العامرة بقصر البحر، واستمع الحضور الكبير في المجلس لفكرة ذلك الصندوق والمسمّى «صندوق الوطن» والذي أتى كمبادرة ذاتية لمجموعة من رجال الأعمال يرمي إلى توحيد الجهود والتوجيه الأمثل للموارد المالية بما يخدم المجتمع دون ازدواجية وتكرار أو تشتّت وضعف تأثير، ويهدف بالمقام الأول إلى مساعدة الشباب المواطن ودعم تمكينه وتعزيز فرص نجاحه والإسهام في خلق مجتمع متعاون ومتكافل من خلال أربعة محاور هي: توفير الرعاية للموهوبين، وتقديم الإرشاد المهني لتطوير الكفاءات الشابة المواطنة، وتشجيع المشروعات التجارية الناشئة ذات الأثر الاجتماعي، ودعم الأبحاث التطبيقية والابتكارات.
الجميل في المبادرة فوق أنها تتماشى مع رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان لمرحلة «إمارات ما بعد النفط» أنها ذاتية الفكرة والتنظيم والعمل من بعض رجال الأعمال الذين نفتخر بهم ونُقَدّر إحساسهم العالي بمسؤوليتهم تجاه وطنهم وأبنائه ورغبتهم الصادقة في أن يكونوا من صانعي الفارق لبلادهم وأن يساهموا بفاعلية للأخذ بيد الجيل الجديد ليقف على قدميه ويكون قادراً على حمل راية الوطن وضمان ديمومة واستمرارية عجلة التنمية، ويقينهم أن النجاحات العظيمة تبدأ بفكرة صغيرة لكنّها مع الوقت وبتوفر النية الصادقة تكبر مع الوقت وتصبح أشبه بكرة الثلج المتدحرجة التي لا تزيد مع الزمن إلا حجماً وسرعة وقوة.
الحفاوة التي حملتها العيون لأعضاء مجلس الصندوق ترجمت مشاعرها نبرة «بو خالد» حفظه الله وهو يقول: «نبارك لهذه النخبة من رجال الأعمال من أبناء الوطن جهودهم ومبادرتهم للمساهمة في بناء قادة المستقبل وتفعيل دورهم في مسيرة التنمية والتطور والنماء والازدهار للوطن وللأجيال القادمة»، لم تكن كلمته بالجديدة على الحضور، فقد دأب سموّه على تقدير المميزين وشكر أصحاب الأيادي البيضاء والاحتفاء بكل من يخلق فارقاً، ولم يسبق أن مرّت علينا برزة الاثنين دون أن نراه، حفظه الله، يشكر أفراداً أو يُبرز دور مؤسسة أو يُحَيّي جهد فريق عمل أمام الجميع في درسٍ قيادي أسبوعي في إعطاء كل ذي حقٍ حقه وفي أهمية تأسيس وترسيخ «ثقافة الشكر» لكل المنجزين والمجتهدين لخدمة بلادهم ومجتمعهم، فدون شكر لن يستمر حماس ودون تقدير لن يدوم إنجاز، وهو درس نتمنى أن يستوعبه ويتعلّم منه كل القائمين على المؤسسات العامة منها والخاصة، ألم يقل ربّ العالمين في تأكيد علاقة استمرارية العطاء بوجود العرفان:«ولئن شكرتم لأزيدنّكم».
جملةٌ استرعت الانتباه ذاك اليوم عندما قال:«كلنا شركاء وعلينا واجب خدمة مصالح وطننا الغالي، كلٌ بطريقته وإمكانياته»، فالجميع في عُرْف «بو خالد» مطالبٌ حسب «طريقته» ووِفْق «إمكانياته» بخدمة بلاده، الكل على ثغرةٍ من ثغور الوطن، التاجر ورجل الأعمال بعطائه ومساهماته وأياديه البيضاء، والجندي بوقفاته وتضحياته لحمايته والذود عنه، والموظف بتفانيه وأمانته واجتهاده لجعل خدمات مؤسسته الأفضل والأكمل، والكاتب بدفاعه عن وطنه ضد أصحاب الأقلام المأجورة والأجندات المشبوهة التي تكيد له وتحاول التلبيس والتدليس وقلب الأمور، والمربّي بحسن تعليمه لمن هو مسؤول عنهم من الناشئة واجتهاده في تقديم أحدث ما يمكن من وسائل التعليم وطُرُقه لتأهيل جيل قادر على حمل الراية بثقة عالية وعلم متجدد وفكر منفتح ورؤية سليمة.
لم يسبق لحضور البرزة المباركة أن سمعوا توبيخاً أو انتقاداً، فتلك أمور تتم بعيداً عن المجالس العلنية، حتى العتب على بقية الأثرياء الذين لم يشاركوا أتى مغلفاً بتوجيهٍ جميل وبعبارة راقية منه حفظه الله، وهو يقول: «ندعو إلى الاقتداء بهم والمشاركة معهم في دعم الجهود الرامية للارتقاء بقدرات ومهارات شبابنا للحفاظ على إنجازاتنا وصناعة مستقبلنا»، هو يعلم أن الأثرياء في الإمارات يزيدون على 72 ألف رجل وامرأة ولو أسهم كلٌ منهم بشكل سنوي بنسبة بسيطة، 1% من العوائد كما اقترح الأخ محمد العبار، فإنّ موجودات الصندوق ستتعاظم بشكل يؤهلها لتأدية الدور الذي أخذه أعضاء مجلس الإدارة على أنفسهم.
نعتب على أولئك الأثرياء الذين ينزوون في الزوايا المظلمة ويختبئون في الصفوف الخلفية كلما كان الموقف يحتاج وقفة جديرة بحجم الوطن وأهميته وقَدْره، وطنٌ وفّر لهم كل سبل النجاح يستحق أن يحملوا له الكثير من العرفان وأن يقدّموا له الجزيل من ردّ الجميل، والعطاء لأجل الوطن ليس صَدَقة أو مِنّة ولكنه واجب وترجمة لمسؤولية لا يجوز التملّص منها وإثبات بأنّ للوطن رجالاً يحمون ثغوره.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة