مر عامان على انطلاق «عاصفة الحزم» التي سيُنظر إليها دائماً على أنها نقطة فاصلة في تاريخ منطقة الخليج، وفق اعتقادي واعتقاد كثيرين ممن تجمعني بهم ملتقيات وندوات معنية بالشأن السياسي والاستراتيجي
مر عامان على انطلاق «عاصفة الحزم» التي سيُنظر إليها دائماً على أنها نقطة فاصلة في تاريخ منطقة الخليج، وفق اعتقادي واعتقاد كثيرين ممن تجمعني بهم ملتقيات وندوات معنية بالشأن السياسي والاستراتيجي، وهي أيضاً تطور مفصلي في توظيف أدوات القوة والتأثير، التي تمتلكها دول الخليج، واستثمار الإمكانات الوطنية في الوقت والمكان المناسبين.
ومن المؤكد أن ما قبل «عاصفة الحزم» لا يشبه ما بعدها، وأن حسابات كثير من الأطراف، التي لا تريد لدول الخليج وشعوبها خيراً، أصابها الارتباك بعد ظهور عنصر جديد في معادلة الأمن بالمنطقة، وهو أن القوة الخليجية الصلبة أو الخشنة جاهزة لأداء دورها حين لا يصبح هناك مناص من ذلك.
"عاصفة الحزم" هي دفاع عن كل البلدان العربية ضد خطر لن يبقي بقعة عربية امنة، وحرب نتحمل تكاليفها نيابة عن الأمة بأسرها .
هناك كثير مما يقال عن «عاصفة الحزم» بعد عامين. وأول ما أتوقف عنده هو التأييد الكاسح، الذي لقيته على مستوى شعوب دول الخليج، والإجماع على أهمية هذه الخطوة، بل ضرورتها. صحيح أن القادة الخليجيين يحظون بتأييد ورضا عاليين من جانب مواطنيهم بصورة عامة، لكن الأيام والأسابيع التي تلت بدء العمليات العسكرية شهدت حرصاً شعبياً أعلى على التعبير بجلاء وقوة عن الحماسة للقرار، واستمر ذلك حتى الوقت الحالي. وعلى رغم أن مواطني دول الخليج يعرفون أن الحرب ليست نزهة، وأن لها تبعاتها وتكاليفها، أبدوا استعداداً تاماً لتحمّل ما يفرضه الواجب الوطني من تضحيات، وأظهروا وعياً وطنياً عالياً يقوم أساساً على المعرفة.
إن انفتاح شعوب الخليج على العالم، وقدرتهم على النفاذ إلى مصادر المعلومات في العالم، وبينهم مئات الآلاف ممن درسوا في الغرب سنوات، أو أقاموا هناك، ومعظم الخليجيين سافروا إلى كثير من دول العالم، كل ذلك كوَّن لديهم فهماً أوضح للعالم وتحدياته، يرتكز على الخبرات والتجارب ومعرفة العالم كما هو في الواقع. ويضاف إلى ما سبق صدقية الإعلام الخليجي ومسؤوليته، وبعده عن المزايدات والمهاترات، والشفافية التي تتسم بها شؤونه العامة. هذا كله يجعل من تأييد شعوب دول الخليج لـ «عاصفة الحزم» تأييداً واعياً تقوده الحقائق، ما يمنحه رسوخاً وقوة، إلى جانب المشاعر الوطنية القائمة على التحامٍ بالقيادة، وثقة أكدتها التجارب بقدرتها على اتخاذ القرارات الصحيحة.
السياق الدولي والإقليمي الذي واكب انطلاق «عاصفة الحزم» كانت له أهميته أيضاً، فقد اتُّخذ القرار في ظل نزوع إدارة باراك أوباما إلى دعم الفوضى في الدول العربية، وتهيئة الأجواء لتعميق الصراعات الداخلية الدامية، وهو ما رافقه تنكر للحلفاء العرب وانعطاف غير مبرر نحو إيران، وتقديم مكاسب سياسية واقتصادية كبرى لها من دون مقابل، والسماح لها ضمناً بلعب دور أكبر، وغض الطرف عن تدخلاتها في شؤون جوارها العربي. وقد تنامت وقتها سوق التنبؤات بالاضمحلال التدريجي لدور دول الخليج العربي وتراجعها سياسياً واقتصادياً، فجاءت «عاصفة الحزم» لتكشف للعالم أن أوراق القوة لدى دول الخليج كثيرة ومتنوعة، وأنها ستوظفها على النحو الأمثل للدفاع عن أمنها ودحر كل محاولات تطويقها أو إضعافها.
من الجوانب التي لم تحظ بما يكفي من الاهتمام في أسباب انطلاق «عاصفة الحزم» ما كان سيحدث لليمن ذاته، فلقد تحولت الأرض اليمنية، مع الاجتياح الحوثي، إلى ساحة قتال واسعة. والطبيعة المعقدة لليمن كانت تجعله ماضياً بالتأكيد نحو ساحة قتال ضار على خطوط وخلفيات مناطقية وقبلية ومذهبية وآيديولوجية وسياسية وتاريخية ستشتعل جميعها في دولة متخمة بالسلاح والعوز والضائقة الاقتصادية، تهاوت مؤسساتها وانفكت عراها. كل ذلك كان يبشر بحرب لا رحمة فيها، لأنها لن تكون بين طرفين يمكن أن يصلا إلى اتفاق في النهاية، بل ستكون بين عشرات الأطراف المتداخلة، وستجر إليها ملايين اليائسين والغاضبين والموتورين، ما سيجعل القتال بلا هدف ولا نهاية. سيكون ذلك قتلاً للقتل لا يتوقف عن إعادة إنتاج نفسه، وهذا مصير مرعب، لأن القتلى يمكن أن يتجاوزوا مئات الآلاف.
«عاصفة الحزم» أنهت رعب الاحتمالات هذا، فقد تأطرت المواجهة في جانبين أساسيين: جانب الشرعية، وجانب التمرد. وروعيت القواعد والقوانين الدولية، التي تحكم الصراعات المسلحة والعمليات الحربية، الأمر الذي جعل الخسائر المادية والبشرية عند حدها الأدنى، وهو ما حرص عليه التحالف العربي على رغم ما يكلفه هذا الأمر، الذي يؤخر عملية تحرير الأرض من قبضة المتمردين.
كذلك كان هناك هدف سياسي واضح للعمليات الحربية، ولو قبلته عصابات الحوثيين لتوقفت هذه الحرب قبل وقت طويل، لكن الميليشيات التي تتعيش على الحرب لا تستطيع اتخاذ هذا القرار ما لم تصدر الأوامر من طهران، والأخيرة ترى أن مصالحها تتطلب استمرار الحرب، حتى لو كان وقودها من أرواح اليمنيين ومقدراتهم.
من جهة ثانية، فإن الدولة، التي سيصير كل شبر منها مسرحاً للقتال والقتل، هي البيئة الأكثر ملاءمة لنشاط تنظيمات مثل «القاعدة» و «داعش» وجماعات الإرهاب على اختلافها، وكان مرجحاً أن تقتطع من مساحة اليمن دولة لها، على غرار ما حدث في سورية والعراق، بالنظر إلى ما لـ «القاعدة» ولجماعات الإرهاب عموماً من حضور استمر عشرات السنين. ولو كانت حدود اليمن قد تركت من دون إحكام السيطرة عليها لأصبح اليمن ملاذاً لآلاف المقاتلين الذين سيهربون من سورية والعراق، ولاستقبل مقاتلين مهووسين من كل مكان من العالم.
وقد بددت «عاصفة الحزم» هذا الاحتمال، وحرصت على إنهاء وجود «القاعدة» ومثيلاته في اليمن، من خلال عمليات عسكرية قصمت ظهر الإرهاب وقطعت أوصاله، وقضت على خطر داهم يهدد دول الخليج والدول العربية والعالم.
ومن الضروري أن نُذكّر هنا بأن «عاصفة الحزم» كانت دعماً للشرعية الدولية، وتنفيذاً لقرارات أممية تضمنت إجراءات وخطوات محددة رفضها الحوثيون، مستندين إلى سياسة فرض الأمر الواقع، وأنها حظيت بتأييد عربي ودولي كبير، فالحوثيون من وجهة نظر القانون الدولي، ومن وجهة نظر الغالبية الساحقة من دول العالم، هم ميليشيات إجرامية سعت إلى تقويض الدولة واستولت على المؤسسات والمدن بقوة السلاح، وهم سبب المشكلة التي يعاني منها اليمن وشعبه.
أخيراً، هناك العامل الذي تعمدت أن أجعله في نهاية المقالة، ليس لأنه أقل خطراً، بل لأنه أصبح واضحاً لكل ذي عينين، ولا تتعامى عنه إلا قلة تحركها الأهواء والضغائن، ذلكم هو خطر التدخل الإيراني، الذي يحمل معه، أينما حل، الفرقة والدمار والخراب والفقر والكراهية. ولو أن الخطة الخبيثة التي وضعها ملالي إيران للهيمنة على اليمن من خلال الحوثيين نجحت لكان ذلك مقدمة لأهوال لن تقتصر على دول الخليج التي ترتبط بحدود مع اليمن، أو حتى الأبعد منه، ذلك أن الطموح الإمبراطوري يمتد إلى مناطق أوسع بكثير داخل العالم العربي وخارجه. لذا فإن «عاصفة الحزم» هي دفاع عن كل البلدان العربية ضد خطر لن يبقي بقعة عربية آمنة، وحرب نتحمل تكاليفها نيابة عن الأمة بأسرها.
ليس هناك حرب جميلة، والحرب لم تكن يوماً غاية وهدفاً لنا في الخليج، لكنها حين تكون الخيار الوحيد للحفاظ على أمننا واستقرارنا ونصرة أشقائنا، فإننا قادرون على خوضها، والاستمرار فيها حتى تحقق أهدافها.
*نقلاً عن " الحياة "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة