من غرفة الساونا لكتابة التاريخ.. مسيرة استثنائية لـ"ماما ميركل"
"وجه صارم، فكاهي أحيانا.. يلتزم الروتين، براجماتي.. يكره لحظات الضعف".. هكذا توصف المستشارة الألمانية المنتهية ولايتها أنجيلا ميركل.
تلك المرأة التي تربعت على عرش المستشارية الألمانية بتأييد شعبي كبير خلال 16 عاما، بحسب ما طالعته "العين الإخبارية" في رحلة ميركل.
ورغم تقلبات السياسة تملك ميركل صفات نادرا ما تتوافر في شخص واحد أو سياسي في عالم ترقص فيه معدلات الشعبية والحب على وقع التغريدات وتعبيرات الوجه الإلكترونية.
لكن كل ذلك اجتمع في قصة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل (67 عاما) طوال 16 عاما في سدة الحكم، ونحو 30 عاما في العمل العام.
فالمرأة الحديدية، كما تصفها وسائل الإعلام، خاضت حياة سياسية على أساس "المبدأ" و"الاحترام"، فلم ترضخ يوما لضغوط، ولم تفعل إلا ما تراه مناسبا، حتى لو واجهتها عاصفة انتقادات أو موجة ضغوط.
وميركل صارمة جدا، ولا تخرج عن روتينها اليومي حتى في أصعب وأهم اللحظات، بل حتى في وقت ثورة مواطني برلين الشرقية عام 1989، ومشهد سقوط جدار برلين التاريخي.
ففي 9 نوفمبر/ تشرين ثاني 1989، تدفقت حشود من الألمان الشرقيين عبر الحدود التي مزقت الحياة في المدينة التاريخية لعقود طويلة، لتذوق أجواء التغيير، وكسر جدار الخوف والانقسام؛ جدار برلين.
ورغم ذلك، لم تكن أستاذة الفيزياء التي كانت تعيش في برلين الشرقية في ذلك الوقت، بين الحشود الطامحة للحرية، لكنها كانت تتجه إلى حمام "الساونا" مع صديقة لها بعد يوم عمل شاق في الجامعة، تماما كما اعتادت أن تفعل كل خميس.
وعن ذلك، قالت المستشارة الألمانية لصحيفة "جارديان" البريطانية في مقابلة عام 2009: "كانت الأجواء متوترة قبل أيام من هذا التاريخ.. اعتقدت أن شيئًا ما سيحدث، وسمعت إعلانًا عبر التلفزيون عن فتح الحدود".
وتابعت معبرة عن النهج البراجماتي الذي كان علامة مميزة لفترة حكمها: "لكن كان ذلك اليوم يصادف الخميس، وكان يوم خميس هو يوم الساونا الخاص بي، لذا ذهبت إلى غرفة الساونا".
وعلى عكس العديد من سكان برلين الشرقية الذين هرعوا إلى عبور الجدار المحطم، خوفا من أن يعاد بناؤه، قالت ميركل إنها لم تكن في عجلة من أمرها لاستكشاف الغرب في ذلك الوقت، مضيفة "كنت أعتقد أن الجدار لن يغلق مرة أخرى، لذلك قررت التريث".
وبعد الساونا، ذهبت ميركل وصديقتها لتناول الجعة قبل الانضمام أخيرًا إلى الحشود المتوجهة غربًا عند جسر بورنهولمر في وقت لاحق من تلك الليلة التاريخية.
وهذه الواقعة، وإن حدثت في عمر مبكر لميركل وقبل دخولها معترك السياسة، تلخص فترة حكمها، وبراجماتيتها وهدوئها، وتريثها في اتخاذ القرارات، وفق تقارير ألمانية.
ومنذ هذا التاريخ، لم تكن ميركل شاهدة على التاريخ، بقدر ما كتبته بنفسها، وخطت اسمها بحروف من نور في التاريخ الألماني، وفي عقول وقلوب مواطنيها، وحتى في قلوب مواطنين عرب.
عنقاء من بين الرماد
قبل نحو عامين، كان الجميع يتوقع نهاية مفاجئة لميركل، بعد أن ظهرت ضعيفة وجلست في استقبالات رسمية على كرسي ثلاث مرات إثر إصابتها برعشة مفاجئة أمام عدسات الكاميرات.
لكن المستشارة التي تمسكت بأنها "بصحة جيدة" استطاعت أن تخرج من هذه الأزمة قوية، ولم يظهر عليها هذا الضعف مرة أخرى.
ولم تكن هذه أول مرة تفاجئ بها ميركل متابعيها وخصومها بقوة وجلد، فهي تمتلك رحلة صعود استثنائية في عالم السياسة، بداية من توليها منصب وزير البيئة عام 1997، ثم انتخابها بعد عام أمينة عامة للحزب الديمقراطي المسيحي، قبل أن تتولى رئاسة الحزب في غضون أربع سنوات فقط من هذا التاريخ.
وفي 2005، أنهت ميركل سيطرة الاشتراكيين على الحكومة، بعد أن هزمت الحزب الاشتراكي الديمقراطي (يسار وسط) برئاسة المستشار آنذاك جيرهارد شرودر، وأصبحت أول مستشارة في تاريخ البلاد.
ومنذ ذلك التاريخ، أظهرت ميركل التي تحمل دكتوراة في الفيزياء وعاشت معظم حياتها في ألمانيا الشرقية السابقة، قدرا كبيرا من القوة والإلمام بالسياسة، جعلاها تهيمن على المشهد الألماني لمدة 16 عاما، وتتساوى مع مثلها الأعلى المستشار السابق هيلموت كول في عدد سنوات الحكم.
وقبل 2005، لم يكن أحد يتوقع أن تنجح ميركل، أو كما كانت تلقب بـ"طفلة هيلموت كول المدللة" بسبب قربها من مثلها الأعلى، في الوصول إلى الحكم، وسط تحليلات عن افتقارها للكاريزما.
لكن المرأة الحديدية هزمت توقعات الجميع، ووصلت لحكم ألمانيا، بل تربعت على قائمة أقوى النساء في العام، التي تصدرها مجلة فوربس الأمريكية لسنوات طويلة.
وكدلالة على قوتها تعرف ميركل بين الألمان بـ"ملكة الليل"، لأنها اعتادت ممارسة عملها وعقد الاجتماعات حتى وقت متأخر دون أن تتأثر حالتها الصحية أو الذهنية.
ويروج الألمان لعبارات تشبه الأساطير عن المستشارة القوية، مثل أنها بإمكانها العمل طويلا وتخزين النوم مثلما يخزن الجمل المياه.
وفي 2019، على سبيل المثال، قادت ميركل سفينة الائتلاف الحاكم مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي وسط رياح سياسية عاتية إثر خلافات بين طرفي الحكومة حول عدة قضايا أبرزها المناخ والرقمنة وميزانية الدفاع، ثم تعرض الاشتراكي الديمقراطي لهزيمة كبيرة في الانتخابات الأوروبية في مايو أيار 2019.
ورغم أنها أعلنت طواعية في ديسمبر/ كانون الأول 2018 نهاية رحلتها مع السياسة بختام الفترة التشريعية الحالية في الخريف الحالي، لإفساح المجال لقيادات جديدة، لم تدخر ميركل جهدا في مواجهة فيروس كورونا المستجد، وقادت بلادها بنجاح في الأزمة حتى اليوم، سواء اقتصاديا أو صحيا.
تاريخ كبير ومزايا عديدة
ميركل صنعت التاريخ كثيرا منذ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2005، وهو تاريخ توليها الحكم، سواء لأنها أول امرأة تحكم جمهورية ألمانيا الاتحادية، أو اتخاذها قرارات قوية مثل إلغاء التجنيد الإجباري أو استقبال مليون لاجئ في أزمة اللاجئين 2015، أو إنهاء اعتماد بلادها على الطاقة النووية.
ويقول توماس دي مزيير السياسي الذي رافق ميركل لمدة 22 عاما في أروقة الحزب الديمقراطي المسيحي (يمين وسط) والحكومة: "رأيت المستشارة لأول مرة في مارس 1990، حيث كانت أحد القيادات الكبيرة في الحركة الثورية الشبابية في ألمانيا الشرقية التي كانت تنهار في ذلك الوقت".
وتابع: "كنت متحدثا باسم الحزب الديمقراطي المسيحي وشاركت في مؤتمر صحفي مع ميركل... كانت متوترة ومهتمة بالتنظيم لأبعد حد وتركت انطباعا جيدا للغاية، لكننا لم نتعرف على بعضنا في ذلك اليوم".
وبعد ذلك بسنوات طويلة، اقترب دي مزيير من المستشارة الألمانية كرئيس لديوان المستشارية، ثم وزيرا للدفاع، ووزير للداخلية قبل خروجه من الحكومة في 2017.
دي ميزيير يصف المستشارة "شغوفة لدرجة كبيرة لكنها تخفي ذلك الشغف قليلا، ولا تحب إظهار مشاعرها، وتتصرف بمسؤولية كبيرة وهادئة".
وفي مقابلة مع مجموعة "دويتشه فونكة" الإعلامية الألمانية قبل سنوات، قال عن ميركل إنها "تتسم بروح الدعابة لكن لا تحب إظهارها أمام الجمهور".
وبالإضافة إلى ذلك، تعرف ميركل جيدا كيف تتعامل مع الرجال الأقوياء، إذ تعكف على دراسة الشخصية بعناية فائقة قبل اللقاء، وتجمع كل المعلومات حول تصرفات وصفات وأقوال الشخصية، وفق دي مزيير الذي قال إنها "فعلت هذا قبل لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب".
كما أن أستاذة الفيزياء السابقة التي اكتشفت وسائل إعلام ألمانية، الأصول البولندية لجدها من ناحية الأب في 2013، تتبع الأسلوب العلمي في التفكير، ودائما ما تربط بين السبب والنتيجة، وتتساءل قبل اتخاذ القرارات "ماذا يحدث لو فضلت هذا الخيار على ذلك؟".
ولا تحب ميركل الظهور في صورة الشخصية الضعيفة حتى لو كان الضعف ناجما عن أزمة صحية، إذ قالت في كتاب نشرته عام 1997، حينما كانت وزيرة للبيئة: "أود أن أجد الوقت المناسب لاعتزال السياسة. إن هذا الأمر أصعب بكثير مما تخيلت، ولكني لأ أريد أن أبقى في السياسة وأنا جسد نصف ميت".
حب جارف وحلم مؤجل
تحظى ميركل المعروفة بحبها للموسيقى الكلاسيكية ومواظبتها على حضور حفلات الأوبرا، بحب واحترام للجاليات العربية في ألمانيا، وأطلق عليها السوريون "ماما ميركل" بسبب قرارها فتح الأبواب أمام مليون لاجئ لدخول بلادها في 2015، معظمهم من سوريا والعراق، ما حمّلها تكلفة سياسية ألقت بظلال على شعبيتها، في سبيل هذا القرار.
لكن لا يتوقف الأمر عند العرب، إذ تصدرت ميركل الاستطلاعات، كأكثر سياسي ألماني شعبية، طوال 16 عاما، ولم تسقط من هذا العرش؛ وحتى اللحظة الذي يتنافس فيها السياسيون على خلافتها في انتخابات شديدة التنافسية انطلقت اليوم الأحد، حيث لا تزال المستشارة "ملكة الشعبية" في هذا البلد الأوروبي.
وبعد نهاية ولايتها الحالية، تحلم المستشارة الاستثنائية برحلة تقاعد مكوكية في كافة أنحاء الولايات المتحدة رفقة زوجها، دون إجراءات رسمية وحراسة ولقاءات عمل، وفق توماس دي ميزيير.
وخلال زيارتها لواشنطن في وقت سابق هذا الصيف، فتحت المستشارة الألمانية قلبها لأول مرة، وتحدثت عن مشاعرها مع اقتراب فترة التقاعد، وقالت إن تركها منصب مستشار ألمانيا بنهاية الفترة التشريعية الحالية في الخريف، يشغلها بالفعل.
وبوضوح، أضافت ميركل: "من المحتمل، عادة، أن تتبادر إلى ذهني أفكار مختلفة حول ما يجب أن أفعله بالفعل الآن. وبعد ذلك سيخطر لي سريعًا أن شخصًا ما سيفعل ما كان يجب أن أفعله"، في إشارة لتولي شخص آخر منصبها بعد التقاعد.
وتابعت: "أعتقد أنني سأحب ذلك كثيرًا، ثم سأفهم أن لدي وقت فراغ... لن أقبل أول دعوة أتلقاها على الفور لأنني أخشى أنه ليس لدي ما أفعله ولا أحد يريدني بعد الآن".
وختمت: "لكنني سآخذ استراحة للتفكير فيما يثير اهتمامي، لأنه في آخر 16 عامًا لم يكن لديّ متسع من الوقت للقيام بذلك.... سأحاول القراءة، ثم أغلق عيني لأنني متعبة، ثم أنام قليلاً".
aXA6IDMuMTQ0LjI1My4xOTUg جزيرة ام اند امز