المسؤولون الأمريكيون لا يُحاسبون على خياراتهم السياسية، ولكن الجمع بين هذه الخيارات وبين المصالح الشخصية.
عندما كان أنصار الرئيس دونالد ترامب يطالبونه بحبس منافسته هيلاري كلينتون في انتخابات العام 2016، كان الأمر يبدو مبالغا فيه. الآن، بعد فضيحة الرسائل، صار بوسع المرء أن يرى أن حبسها قليل.
التحقيقات التي قادها جيمس كومي مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي في ذلك الوقت، سلكت هي نفسها الطريق الخطأ، لأنها ركزت على فحص ما إذا كان استخدام كلينتون لإيميلها الشخص ينطوي على انتهاك للسرية، وليس على المضمون الكارثي لتلك الإيميلات.
لم يعثر كومي إلا على القليل مما يمكن اعتباره انتهاكًا للقوانين الفيدرالية ولوائح وزارة الخارجية، ولكن كان بين يديه الكثير من الأوساخ الأخرى.
لم يكن بوسع التحقيقات أن تكتشف "سرا" يتعلق بعمل وزارة الخارجية الأمريكية في الإيميلات التي أظهرت تواطؤ كلينتون مع تنظيمات الإخوان المسلمين. وليس هناك ما ينتهك قواعد عمل الوزارة في أن تطلب كلينتون تحويل أموال من قطر إلى حساب يقع تحت إدارتها الشخصية لتمويل تلك الجماعات. كما لم يكن هناك "سر" في انحياز كلينتون إلى إيران، ولا في سياستها التي انتهت إلى السماح لإيران بالهيمنة على العراق من خلال مليشيات تابعة للحرس الثوري الإيراني، ومن ثم، خدمة المشروع الطائفي الذي تقوده إيران.
لا توجد أسرار في كل ذلك، ولا انتهاكات لقواعد عمل وزارة الخارجية، ولكنها جرائم بالمعنى الحرفي للكلمة، تستوجب ما هو أبعد من مجرد الحبس.
المسؤولون الأمريكيون لا يُحاسبون على خياراتهم السياسية، ولكن الجمع بين هذه الخيارات وبين المصالح الشخصية، هو في أقل الاعتبارات، خيانة للأمانة، وتوظيف للمسؤولية الحكومية لأغراض غير مشروعة.
فساد كلينتون كان واضحا بالنسبة للكثير من الأمريكيين، ولكن مصادر الفساد ظلت غامضة حتى تم الكشف عن محتوى تلك الإيميلات.
المفتش العام في وزارة الخارجية كان هو الذي كشف في مارس 2015 عن أن هيلاري كلينتون استخدمت بريدها الإلكتروني الشخصي في بعض المهام الرسمية خلال فترة توليها منصب وزيرة الخارجية. ويبدو أنه كان يعرف أن هناك عملا ذا طبيعة جنائية وراء ذلك التصرف.
محتويات تلك الإيميلات، أظهرت صلات تنسيق وتمويلات بينها وبين قطر، ومن بينهما قناة الجزيرة، لدعم جماعات الإسلام السياسي.
في الظاهر، كان الهدف الرئيسي لأعمال التنسيق والتمويلات يستهدف دعم ما يسمى "الربيع العربي"، ولكن الغاية في الباطن كانت دعم تنظيمات الإخوان المسلمين مقابل المال.
كومي لم يوص بتوجيه اتهامات لكلينتون، لكنه قال إن تصرفاتها تنم عن "استهتار كبير". في حين أن كلينتون كانت تعرف تماما لماذا يتعين عليها أن تستخدم حواسيب شخصية بدلا من حواسيب الوزارة التي كانت ترأسها. فهي كانت تريد أن تغطي فسادها الشخصي، وأن تُبعد مراسلاتها عن أن تكون خاضعة لمراقبة مفتشي الوزارة.
ولو كان الأمر يتعلق بالخيارات السياسية وحدها، ما كانت كلينتون لتخشى شيئا في أن تقرر ما تشاء بالتنسيق مع الرئيس باراك أوباما. ولكنها سعت إلى تغطية الجانب القذر من تلك الخيارات.
وهذا الجانب هو ما لم تلحظه التحقيقات على الأقل، لأن هناك الكثير من القيود التي تحول دون توجيه اتهامات جنائية لوزير في الحكومة، ولأن الرئيس أوباما نفسه، لم يكن ليسمح بتحقيقات تأخذ وجهة تتعدى النظر في الجانب "التقني" للقضية، ولأن كلينتون كانت "تلعب" لحسابها الشخصي، في دائرة خياراته السياسية هو.
الكل يستطيع أن يرى الآن عواقب تلك الخيارات التي تورطت بها إدارة أوباما. ومنها أنها تورطت في مشروع لتدمير دول المنطقة، كان قائما من قبل أن تندلع تلك "الثورات"، وهو ما كشفت عنه التسجيلات الصوتية بين أمير قطر السابق حمد بن خليفة ووزير خارجيته حمد بن جاسم وبين العقيد معمر القذافي. ومنها أنها سمحت لإيران بالاستيلاء على العراق، والتمدد إلى سوريا ولبنان واليمن، لتحوّل هذه البلدان إلى جحيم، ولتدفع الملايين من شعوبها إلى التشرد والحرمان، وإلى أن تقود أنظمة فساد لا سابق لها في كل تاريخ العالم. فالفساد في العراق وحده استهلك مئات المليارات من الدولارات التي ذهب معظمها لتمويل النشاطات الإرهابية الإيرانية في الخارج ونشاطات التسلح في الداخل.
والولايات المتحدة نفسها، هي من يدفع الثمن الآن. فهي تبدو كالطريد في مواجهة مليشيات إيران في العراق.
أما كلينتون، فإنها قد تهنأ بما جنته من تمويلات قطر للإرهاب، ولكنها لن تنجو من المساءلة، ولا من غيمة العار التي تظلل رأسها، ولا من عبء الضحايا الذين تلوثت يداها بدمائهم، والحبس فيها قليل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة