الشرق الأوسط.. عالم جديد من السلام الحقيقي
حين أشرنا من قبل إلى أن الإمارات العربية المتحدة، أضحت رسالة أكثر منها دولة، لم نكن نغالي في الوصف، بل هي الحقيقة التي أكدتها الأحداث لاحقا، وفي المقدمة منها، مسيرة السلام مع إسرائيل.
يعنُّ للمرء في مثل هذه الأوقات المصيرية أن يتساءل: ما الفارق بين الحلم والحقيقة؟
الجواب الشافي الوافي، يمكن أن يتلخص في كلمة واحدة؛ الإرادة، تلك التي تدفع أصحابها للتفكير بعزم، والعمل بحزم، إلى أن ينالوا ما يبتغون.
حكما سوف يعد يوم الإثنين 31 أغسطس/آب بداية لمسيرة جديدة في الشرق الأوسط، بداية تزخمها إرادة سلام حقيقية، تسعى لتغيير وجه العالم، وتحافظ في الوقت عينه على الحقوق التاريخية للمهانين والمجروحين، وتفتح مسارب من الأمل لأولئك الذين شعروا بحالة النبذ والرفض في محيطهم الإقليمي لعقود طوال.
حين أشرنا من قبل إلى أن الإمارات العربية المتحدة أضحت رسالة أكثر منها دولة، لم نكن نغالي في الوصف أبدا، بل هي الحقيقة التي أكدتها الأحداث لاحقا، وفي المقدمة منها، مسيرة السلام مع إسرائيل.
- طائرة السلام تهبط في أرض السلام.. الرحلة التاريخية
- الصحف الإسرائيلية تحلق مع رحلة السلام بصورة وكلمة وعشاء
نهار الإثنين الموعود كانت الرحلة الأولى من تل أبيب إلى أبوظبي، والتي أعادت إلى الأذهان بدرجة أو بأخرى مشاهد وملامح زيارة الرئيس المصري، شهيد السلام أنور السادات، إلى القدس عام 1977.
يحتاج المشهد على أرض الإمارات إلى قدرة ثاقبة على التحليل، ومحاولة جادة في تفكيك أبعاده، لا سيما أننا أمام حدث هو الأول من نوعه منذ ربع قرن تقريبا، حيث بدا وكأن آفاق السلام في الشرق الأوسط قد انسدت، فجاءت الإمارات لتمهد الطريق واسعا لخفض التصعيد، وإخماد النزاعات، والعمل على منع نشوب صراعات جديدة في المستقبل.
أنفع وأرفع ما في السياسات الإماراتية أنها تعمل في النور، ولهذا تطرد الظلام من حولها خارجا، فلا يُضحى له موضع في القلب أو العقل، الأمر الذي يمكنها من مباشرة ما تتطلع إليه بشكل علني، وإيجابي، وخلاق، وهذا ما لمسه العالم برمته في البيان الثلاثي الذي صدر عقب الزيارة التاريخية للوفد الأمريكي الإسرائيلي إلى أبوظبي.
الأسئلة دائما أهم من الإجابات ولهذا تبقى علامة الاستفهام: ما الذي تغيره اتفاقية السلام الإماراتية الإسرائيلية من واقع على أرض منطقة أضحى الموت فيها عادة، والحياة بكل معانيها ومبانيها استثناء؟
بداية يمكن التوكيد على أننا أمام خطوة شجاعة نحو منطقة شرق أوسط أكثر استقرارا وتكاملا وازدهارا، لا سيما أن خيوط وخطوط اتفاقية السلام توفر تفكيرا جديدا لمعالجة الأزمات التاريخية وموروثها، ذاك الذي تسبب في سفك الدماء، وتجذير الكراهية بين شعوب المنطقة، ما ترك إرثا سيئا للأجيال القادمة.
أثبتت التجارب الإنسانية شرق الكرة الأرضية وغربها، أن الحروب والصراعات الدامية، لا يمكنها أن تنهي أزمات، بل تعمقها، وأصحاب الإرادات الفولاذية وحدهم وليس غيرهم هم من يقدرون السلام حق قدره، ويرون فيه انتشالا للإنسانية من عالم التوحش إلى أزمنة الأنسنة الحقيقية.
أبدعت الإمارات عبر العقود الخمسة المنصرمة في أن تقدم نموذجا للرفعة والتقدم على جميع أصعدة الحياة، زراعة، تجارة، صناعة، واليوم تضيف إلى منجزاتها التاريخية بعدا جديدا في إطار تفوقها الأدبي والأخلاقي، بأن تفتح للسلام مسارا يجُبّ الماضي الأليم، ويتيح فرصة اللقاء، والنماء، عبر خطوات عملية لها نتائج ملموسة حيث تحمل في طياتها الوعد بمستقبل أفضل لكل أبناء المنطقة.
حين أطلق على اتفاق السلام الإسرائيلي الإماراتي، اتفاق إبراهيم، كان ذلك دعوة صريحة مريحة لبناء الجسور، وهدم الجدران، وقد علمتنا التجربة التاريخية، أن الجسور هي أداة الوصل، والجدران آلية الفصل، وفيما العالم اجتمع بعد عقود من الحرب الباردة ليهدم الجدران، ها هي الإمارات بدورها تنشئ جسورا على ضفاف النفوس المتشاحنة في الشرق الأوسط بهدف تخليق واقع جديد.
ذات مرة صرح أديب فرنسا الوجود الكبير "جان بول سارتر"، في ستينيات القرن الماضي، بأن "الآخرين هم الجحيم"، كان ذلك نتاجا عقليا ونقليا لما عاشته أوروبا من جحيم حربين عالميتين، وعليه فربما بات الآن زمن تغيير هذه الصورة السلبية عن الآخر المغاير.
ولعل الناظر بعين البراجماتية التي تحكم العملية السياسية في كل بقاع وأصقاع الأرض يتساءل: وهل من فائدة تعود على القضية الفلسطينية من تلك المعاهدة بادئ ذي بدء؟
الجواب يحتاج إلى رأس بارد يفكر، وعقل واعٍ يدرك، وقلب منزه عن العواطف السلبية، كي يدرك الناظر أن الاتفاق جاء في الربع ساعة الأخيرة، وقبل أن تقدم حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو على ضم أراضٍ جديدة من الضفة وغور الأردن، ما كان يعني ضياع أي أمل في أن تقوم دولة فلسطينية مستقلة ذات يوم، بل أكثر من ذلك، فلو كانت إدارة حكومة إسرائيل الحالية قد أقدمت على هذه الخطوة، لكان من الطبيعي جدا للعنف أن يجد طريقه مرة أخرى إلى كل الأراضي الفلسطينية، وفي قلب إسرائيل عينها، والمعادلة المؤلمة معروفة، حين تسيل الدماء تتعذر المصالحة.
الإمارات العربية المتحدة قابضة أبدا ودوما على الجمر، بغير خجل أو وجل، تعشق العمل تحت أضواء الشمس، لا من وراء الكواليس، حيث تحاك المؤامرات، تلك التي وضعت على كاهل الفلسطينيين أعباء فوق أعباء، وعمقت الشروخات بينهم، وفككت نسيجهم الاجتماعي.
قبل أن تحط الطائرة التي توجهت من تل أبيب على أرض مطار أبوظبي، كانت الإمارات قد ألغت عقبة قديمة تمثلت في قانون المقاطعة الذي تم إصداره قبل 40 عاما، الأمر الذي يسمح للشركات والأفراد من الجانبين بتبادل السلع والبضائع، تبادل الخبرات العلمية والطبية، تبادل التعاون الأمني في منطقة عرفت آلام الإرهاب… ومع ذلك تبقى هناك ميزة فائقة الوصف.. هل يعرف القارئ ما هي؟
جلاء النفوس والعقول، وتنظيف الأفئدة مما علق بها طوال العقود الماضية من حزازات الصدور، وإتاحة الطريق واسعا فسيحا رحبا لأزمنة مغايرة، أزمنة تحمل احتراما متبادلا، ونظرة موضوعية لحقائق الأشياء، وفي المقدمة منها إحقاق حقوق الشعب الفلسطيني، الأمر الذي تحرص عليه الإمارات كل الحرص، فقد كانت نعم السند والداعم للشعب الفلسطيني طوال مراحل الكفاح، واليوم تدعمه عن طريق السلام والأخذ بيده في مسار مفاوضات نهائية تسمح للأجيال القادمة بأن تعرف معنى الأمن والأمان، وأن تذوق حلاوة الاستقرار والبناء على أسس من العدالة والحقيقة.
- معاهدة السلام.. رحلة إماراتية لآفاق جديدة تنهي سياسة "رد الفعل"
- ماذا يعني رقم رحلة تل أبيب-أبوظبي (LY971)؟
وقت كتابة هذه السطور كانت مناقشات هي الأولى من نوعها تدور على أرض الإمارات حول آفاق التعاون الثلاثي، الإماراتي، الإسرائيلي، الأمريكي، تلك التي تحمل تغيرات إيجابية لشعوب المنطقة برمتها.
هل السلام فرصة أم تحدٍّ؟
أغلب الظن أنه فرصة تمثل تحديا، لا يقدر على مسؤولياته إلا أصحاب الهمم العالية والنوايا والطيبة الصالحة.