لقد منحني القدر الفرصة في الفترة الأخيرة أن أتعرف بشكل أوثق إلى أسلوب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في القيادة
في مبادرة مميزة حركت مشاعر الملايين من البشر أطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، في مطلع هذا الأسبوع رسالة شكر وتقدير لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، بمناسبة مرور 50 عاماً قضاها سموه في خدمة الوطن والإسهام في رفعته، وتزامنت هذه الرسالة مع نهاية عام 2018 كعام مئوية زايد الخير وانطلاق عام 2019 في دولة الإمارات كعام التسامح.
وقد كانت مبادرة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان نحو بوراشد حدثاً قومياً بامتياز، فصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد هو القائد المميز والإنسان النبيل الذي أثرى هذا الوطن ورفع رايته عالياً في الفضاء العربي والعالمي بفكره الراجح، ورؤاه الطموحة، ومبادراته العملاقة، وإنجازاته الاستثنائية، خلال خمسين سنة من العمل المتواصل والجهود الجبارة في خدمة شعب الإمارات وفي مساندة قضايا الإنسانية.
تعلمت خلال هذه الفترة الأخيرة أن الصفات التي تحدد معالم شخصية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد أكثر عمقاً وأوسع أفقاً وأزخر تعدداً في تجلياتها المختلفة عما رصدته من خلال سنوات تجربتي الأولى في العمل بقربه، فهو بكل تأكيد القائد الميداني ذو الطموحات العملاقة والنظر الثاقب.
كما عبرت هذه المبادرة الخالدة عن مشاعر كل مسؤول ومواطن ووافد في دولة الإمارات، ولاقت تعاطفاً في العديد من الأقطار العربية والأجنبية التي امتدت إليها يد الخير، وشملتها عزيمة التنوير، والعلم، والتقدم، والرخاء التي يجسدها سموه، ولهذا وجدنا هذا الصدى المدوي لها في وسائل الإعلام وفي الفضاء الإلكتروني المحلي والإقليمي.
شريط أحداث
وقد مر بذاكرتي بهذه المناسبة شريط أحداث الخمسين سنة الماضية في تاريخ الإمارات كفيلم سينمائي بدأنا كإعلاميين نسمع خلالها بصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في بدايات الاتحاد كأول وزير للدفاع في الحكومة الاتحادية الجديدة ونتابع أخباره عن كثب، وكان الانطباع السائد منذ تلك البدايات أن سموه قائد ميداني يتسم بالحزم والشجاعة والحسم، وأذكر على سبيل المثال إشرافه على إرسال أول قوات اتحادية لدولة الإمارات العربية المتحدة بتعليمات من المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، للمشاركة في قوات حفظ السلام العربية في عام 1976 في لبنان الشقيق الممزق بحروبه الأهلية، وكانت هذه هي الإطلالة الأولى للدولة الفتية لكي تقوم بدور فاعل على المستوى الإقليمي في حفظ السلام رغم تجربتها المحدودة.
كما أذكر حادثة اختطاف الطائرة الألمانية «لوفتهانزا» يوم 13 أكتوبر 1977 عندما حلت في مطار دبي، وهدد المختطفون بعزمهم على تفجيرها بركابها في المطار إذا لم يُستجب لطلباتهم، وانتقل صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد إلى المطار ليقيم طوال الفترة في الميدان، وكان يشرف على محاورة المختطفين بكل هدوء، ويعمل على إفشال مخططاتهم عن طريق المماطلة وتحريك العديد من السيارات وطائرات الهيلوكوبتر من حولهم لإرباكهم وتأخير تزويدهم بالوقود، وأذكر أن الشيخ زايد، رحمه الله، كان على اتصال هاتفي مباشر مع المستشار الألماني هيلموت شميدت لمتابعة سير العمليات آنذاك، بينما تحركت فرقة ألمانية لمكافحة الإرهاب لتحرير الطائرة على أرض المطار بالتعاون مع قوات النخبة الإماراتية، لكن الطائرة المخطوفة بعد أن عجزت عن الحصول على مبتغاها حلقت على عجل متجهة إلى الصومال.
الشجاعة والإقدام
الشجاعة والإقدام والمروءة كانت هي الصفات التي وصفته بها رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، عندما قامت بزيارتها التاريخية في الإمارات عام 1981، وهي تتحدث مع الشيخ مكتوم بن راشد، رحمه الله، عن أخيه، وذكرت في حديثها أثناء مأدبة العشاء في دبي أنها سمعت كذلك أن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد يهوى ركوب الدراجات النارية في البر لتحدي صعود أصعب الكثبان الرملية وذلك في عتمة الليل كنوع من الرياضة وضحك سموه.
وأذكر أن عشق الشيخ محمد بن راشد للخيل كانت مشهورة في بريطانيا، الملكة إليزابيث علقت على ذلك أمام الشيخ زايد، رحمه الله، أثناء زيارته الرسمية في بريطانيا وبحضور صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد أنه أصبح من الصعب الآن منافسة خيول آل مكتوم في أعرق مساقات سباق الخيول في بريطانيا، والمعروف بالطبع أن ملكة بريطانيا تعتبر من أكبر ملاكي خيول السباق في بريطانيا وأنها بدورها تعشق هذه السباقات وتتنافس فيها.
وأذكر كذلك أن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد كان يشترك منذ سبعينيات القرن الماضي في كل الوفود المرافقة للشيخ زايد، رحمه الله، في زياراته الرسمية للخارج التي أسست لشبكة واسعة من الشراكات الدولية الاستراتيجية مع دول العالم من أجل تحصين أمن وسيادة وازدهار دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان سموه في كل تلك الزيارات وخلال المناقشات واللقاءات التي تخللتها أراه دائماً لصيقاً بالشيخ زايد، رحمه الله، يتابع آراءه وأحكامه ويشارك في المشورة والرأي ولا يتخلف عن أي جهد لتحقيق مكاسب للدولة في كافة الأصعدة.
كما كان سموه كما شاهدته في تلك الزيارات دائماً صريح العبارة مع المسؤولين الأجانب يحسن الاستماع للآخر ملماً بما يطرح أمامه من ملفات وسريع التواصل مع محاوريه مهما اختلفت جنسياتهم أو شخصياتهم، وكانت كل تصرفاته وأحاديثه تدل على كياسة دبلوماسية رفيعة، محصنة بذكاء متوقد، ونباهة بينة، ومقدرة أهل علم الفراسة، وشغف الاستطلاع، يريد أن يستوعب الكم الأكبر من التجارب والمعلومات حتى ولو كانت فرعية وهي صفات جمعته مع المرحوم بإذن الله الشيخ زايد.
شكسبير
أذكر على سبيل المثال في قاعة المطار الدولي في أبوظبي ونحن ننتظر مع الشيخ زايد، طيب الله ثراه، وصول رئيس دولة أجنبي شاهدني من بعيد فأشار إلي أن أتقدم صوبه ومن ثم فاجأني بالسؤال عما إذا كنت أستطيع أن أوجز له رأيي في سر خلود شعر الكاتب المسرحي البريطاني وليام شكسبير، وعندما أخبرت وزير الإعلام آنذاك الشيخ أحمد بن حامد، رحمه الله، بعد أن أنهيت الحديث مع سموه عن فحوى هذا الاستفسار استغرب كثيراً لأنه توقع كما كنت أنا أتوقع أن يكون اهتمام صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في المطار الحصول على معلومات إضافية حول الضيف الزائر لكننا غفلنا عن حقيقة أن رجل الدولة الذي نعرفه هو بذات الوقت صنو الشاعر.
لم تسنح لي الفرصة لكي أترجم لسموه مع الضيوف الأجانب في تلك الفترة سوى بضع مرات قليلة لأنه يتقن اللغة الإنجليزية ويتكلمها بطلاقة، لكنني كنت أجده على سبيل المثال يتابع كل ما يقوله الشيخ زايد في لقاءاته مع كبار المسؤولين الأجانب بكل تركيز وعناية ثم ينتقل باهتمامه لسماع ترجمة ذلك الكلام بدقة وكأنه يقيم كل كلمة وجملة فيها، وفي المناسبات القليلة التي ترجمت له فيها كنت أجد حديثه يتماهى بشكل مدهش مع كلام الشيخ زايد من حيث جزالة الألفاظ والمعاني، ومن جهة سعة أفق اهتماماته الفكرية بمقاربات قومية وإقليمية ودولية يعطي كلاً منها جل اهتمامه، وبطغيان الحس الإنساني المرهف في كل مداولاته، وفي تجربة في مقابلة صحفية مع وفد من التلفزيون الألماني وجدته صريحاً وواضحاً ومسترسلاً بثقة القائد الميداني الملم بكل قضاياه، وببراعة المحاور الإعلامي المحنك في أجوبته عن كل سؤال يطرح عليه مهما كانت وعورة أو حساسية بعض النقاط التي أثيرت في اللقاء.
ولقد منحني القدر الفرصة في الفترة الأخيرة أن أتعرف بشكل أوثق إلى أسلوب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في القيادة عندما شرفني باختياري وزير دولة في حكومته التي أرادها في عام 2017 أن تكون حكومة المستقبل، وكان سموه أطلق مبادرة «الحكومة الذكية» في عام 2013 وصفها آنذاك بأنها «الحكومة التي لا تنام، سريعة في معاملاتها، قوية في إجراءاتها، مبتكرة ومتكيفة، تخدم المواطنين في أي وقت، وفي أي مكان داخل وخارج البلاد، وتعمل بدون كلل في تحسين مستويات المعيشة، وتستجيب للتوقعات المعقودة عليها»، أما حكومة المستقبل فتضمنت إضافة حقائب وزارية جديدة تعزز طرق التعامل مع التحديات المستقبلية، إذ قام بتعيين وزير دولة للذكاء الاصطناعي، ووزير دولة للعلوم المتقدمة، ووزير دولة للأمن الغذائي، قائلاً بأن هذا الإصلاح سيركز على «مهارات المستقبل، وعلوم المستقبل، وتكنولوجيا المستقبل ونحن نستعد للذكرى المئوية للإمارات العربية المتحدة لضمان مستقبل أفضل لأجيالنا»، وخلال إطلاق برنامج مئوية الإمارات العربية المتحدة في العام 2017 قال سموه بأن هدفه هو جعل الإمارات أفضل دولة في العالم بحلول عام 2071، والذي يتزامن مع الذكرى المئوية لتأسيس الإمارات العربية المتحدة.
صفات
تعلمت خلال هذه الفترة الأخيرة أن الصفات التي تحدد معالم شخصية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد أكثر عمقاً وأوسع أفقاً وأزخر تعدداً في تجلياتها المختلفة عما رصدته من خلال سنوات تجربتي الأولى في العمل بقربه، فهو بكل تأكيد القائد الميداني ذو الطموحات العملاقة والنظر الثاقب كما وصفت، وهو رجل المهمات الصعبة ذو الحسم والعزيمة كما ذكر المؤرخون، وهو الإنسان النبيل الملتزم برفع المعاناة عن كل من يجد إليه سبيلاً من أفراد وشعوب، وهو المنهمك في نشر نور المعرفة والعلم لا في الدولة فحسب بل في الفضاء العربي، لكنه أيضاً هو أكثر من كل ذلك بكثير، يكفي أنه يفكر من خارج القوالب المعهودة لرجال الحكم، وأننا نمر معه كل يوم بتجربة جديدة علينا أن نتأقلم معها لأنه يمضي جل وقته في التفكير والتدبير كيف يبتكر الأساليب الجديدة لكي يحقق رفعة وطنه ويؤمن رفاهية شعبه، ويشارك في خلق نهضة عربية شاملة ويخدم قضايا الإنسانية.
القيادة الملهمة الملتزمة ضرورة وطنية في كل زمان، لكن مشاهد العنف والدمار، وسلسلة العلل الاقتصادية والاجتماعية، سواء في منطقتنا وفي مختلف أنحاء العالم، والتي تعاني شعوبها من الفوضى والافتقار للتوجيه تبدي لنا أن العالم اليوم، وأكثر من أي وقت آخر في تاريخنا، في حاجة ملحة لقيادة قادرة ومرنة، تتكيف مع متطلبات وتحديات القرن الواحد والعشرين.
ونحن في دولة الإمارات العربية المتحدة حظينا بما أنعمه الخالق علينا بمثل هذه القيادة منذ سنوات التأسيس الأولى التي وضع أركانها الأب المؤسس الشيخ زايد، رحمه الله، متضامناً مع إخوانه الحكام، ونحظى اليوم بحمد الله ونعمه باستمرار نهج هذا الحكم الرشيد تحت قيادة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظة الله، مع أصحاب السمو الحكام أعضاء المجلس الأعلى وتضامن والتزام المحمدين المجيدين في ملحمة العمل المتواصل والتضحية في خدمة المواطن والوطن للسير قدماً في طريق النهضة والتميز، فهنيئاً لشعب الإمارات الأبي بخمسين عاماً من الإنجازات العملاقة، وشكراً لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد على ما قدمه من جهد وإنجاز وابتكار.
نقلا عن "البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة