ينبغي أن نتوقف عند حلم محمد بن راشد والذي يتبين لنا معه الرؤية الإنسانية غير الشوفينية التي يحملها.
ذات مرة من ستينيات القرن الماضي تحدث عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، الرجل الذي نادى بأن يكون التعليم كالماء والهواء متاحا للجميع، ونادى بالقول الشهير "التعليم مستقر الثقافة"، مشيرا إلى أن "كل الأمراض المستوطنة في ثقافتنا مصدرها ميكروبات وفيروسات في التعليم الرديء البائس في مدارسنا"، والسؤال.. هل تغير المشهد كثيرا منذ زمن العميد حتى زماننا هذا؟
يمكن القطع دون أدنى شك أن الداء لا يزال من غير دواء، وعليه فإنه إن كانت هناك جماعات أصولية ترى أن الجهاد هو الفريضة الغائبة، إلا أن الواقع يخبرنا أن التعليم هو الفريضة الغائبة، والناظر لحال العالم العربي يوقن تماما صدقية ما نقول به، ولهذا تبقى هناك الحاجة الماسة للتفكير في إشكالية التعليم بأفكار إبداعية خلاقة، من خارج الصندوق التقليدي.
ينبغي أن نتوقف عند حلم محمد بن راشد، والذي يتبين لنا معه الرؤية الإنسانية غير الشوفينية التي يحملها، فهو لا يتوق لأن يقف الحلم عند حدود أبناء جلدته، بل يتجاوز الأمر إلى حدود الملايين من أبناء العالم العربي من المحيط إلى الخليجغير أن تلك الأفكار لا يقوى عليها سوى المبدعين والحالمين بتغيير الواقع تغييرا جذريا، يبدأ من عند الفصل الدراسي، لكن عن أي فصل يتحدثون؟
من هؤلاء القلة في عالمنا العربي يأتي الشيخ محمد بن راشد نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، الرجل المسكون بالمستقبل، والذي لا ينفك يفاجئ العالم العربي إلى حد الصدمة بأفكاره الجديدة والمفيدة، ما دعا ذات مرة رئيس تحرير صحيفة السياسة الكويتية الأستاذ أحمد الجار لله لمخاطبته بالقول: "محمد بن راشد تمهل علينا"، والمعنى والقصد هنا واضح ومرتبط بثورة بن راشد الفكرية المثيرة للتأمل.
قبل بضعة أيام كان حاكم دبي يطلق منصة "مدرسة" الإلكترونية التعليمية التي تعد الأكبر من نوعها على مستوى العالم العربي، ضمن مؤسسة مبادرات محمد بن راشد العالمية والتي تضم 5000 درس تعليمي بالفيديو، تشمل مواد العلوم والرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء، وتغطي المراحل المدرسية من رياض الأطفال وحتى الصف الثاني عشر.
ما هدف تلك المنصة؟
باختصار غير مخل.. تطوير محتوى تعليمي متميز باللغة العربية ترجمة أرقى المناهج والمساقات التعليمية في العالم؛ حيث تتم إتاحته مجانا لأكثر من 50 مليون طالب عربي في أي مكان في العالم.
ينبغي أن نتوقف عند حلم محمد بن راشد والذي يتبين لنا معه الرؤية الإنسانية غير الشوفينية التي يحملها، فهو لا يتوق لأن يقف الحلم عند حدود أبناء جلدته بل يتجاوز الأمر إلى حدود الملايين من أبناء العالم العربي من المحيط إلى الخليج.
لا يغير الواقع التعليمي العربي المأزوم إلا رجالات بهذا القدر يؤمنون بأن التعليم هو سلاح المستقبل، وأن الجهاد في ميادين العلم والمعرفة هو الخيار الأجدر بالسعي في دربه، درب الحياة والنماء والازدهار، وليس طريق الموت وجهاد التطرف ومآسيه وكوارثه التي عانى منها العالم العربي حتى الساعة، ولا يزال الإرهاب خلف الباب مترصدا العرب حجرا وبشرا.
التعليم الإلكتروني وعن بعد الذي يفتح محمد بن راشد آفاقه لأطفال العرب اليوم، والذين هم بلا أدنى شك شباب ورجال المستقبل، يكاد يستشرف من على بعد بعضا من أسرار نجاحات تجارب الأمم من حولنا، شرقية كانت أم غربية، إسلامية أم يهودية أم بوذية.. كيف ذلك؟
مع ثمانينيات القرن المنصرم اعتبرت اليابان وكثير من الشعوب الآسيوية أنه لا بد بحلول عام 2000 تنتهي ظاهرة الأمية، غير أن الأمية لديهم كان لها مفهوم آخر غير عدم المقدرة على القراءة أو الكتابة، فكان حديثهم عن الأمية التكنولوجية في التعاطي مع وسائل المعرفة الحديثة من أجهزة كمبيوتر وحواسيب آلية، وتعاط مع وسائط الاتصال المعرفي الحديثة برمتها، والناظر لليابان اليوم يرى كيف أن نهضتها قامت على رؤية تعليمية سبقت في بعض مناحيها أولئك الذين وجهوا لها الضربة النووية في هيروشيما وناجازاكي.
حين يتناول الشيخ محمد بن راشد في معرض حديثه عن التعليم قضية سلاح المستقبل، فإنه بالصواب يتكلم، ذلك أن مجال الأسلحة في القرن الحادي والعشرين لم تعد المدافع الفتاكة أو الطائرات الأبابيل، ناهيك عن الصواريخ الباليستية، بل بات التعليم المبدع سلاحا يقهر الصعاب ويذلل العقبات.
خذ إليك على سبيل المثال دولة إسرائيل، وبعيدا عن الصراع العربي الإسرائيلي كإشكالية مجردة، انظر إلى كيفية استفادة هؤلاء القوم من التعليم.
كانت أكبر إشكالية تواجه إسرائيل هي عدم وجود مصادر مياه صالحة للاستهلاك الآدمي أو زراعة الأرض، كان ذلك في العقود الأربعة الأولى لقيام الدولة، غير أن الأحوال تعدلت وتبدلت حديثا بعد أن استطاعت إسرائيل وعبر آليات علمية متقدمة جدا تحلية مياه البحر، وباتت تنتج ما يكفيها ويزيد للإنسان والحيوان والنبات، ولم تعد في حاجة إلى حروب أو صراعات جديدة على المياه، فقد يسر لها العلم ضربا من ضروب الأسلحة التي لا تقهر.
ثورة محمد بن راشد للتعليم الإلكتروني تنطلق من مقاربته تجارب العالم الناجح، ونصب عينيه النهوض بالتعليم في الوطن العربي، وجسر الهوة بين مستويات التعليم المتوافرة فيه، والارتقاء بها إلى مستوى تلك المعتمدة في الدول المتقدمة في مجال التعليم، فضلا عن تطوير المنظومة التعليمية من خلال مفهوم "مدرسة المستقبل" الإلكترونية، التي تمثل مستقبل التعليم وترسخ دعائم منظومة تتطور باستمرار وتواكب التوجهات التعليمية المستقبلية، وتتابع في محتواها الذكي الوسائط والتطورات العلمية المتلاحقة.
يؤمن محمد بن راشد بأن التعليم مسألة أمن قومي عربي، وأنه إن أراد العالم العربي أن يجد له موقعا وموضعا في القرن الحادي والعشرين فليس أمامه سوى التعليم والمعلمين والمتعلمين كمنظومة ترسم ملامح ومعالم الغد.
قد نتفق أو نفترق مع السياسات الأمريكية، لكن لا يمكننا أن ننكر عليها أنها تتحكم في مفاصل العالم من خلال أفضل منتج لمؤسساتها العلمية والتعليمية، فهي تمتلك من 28 إلى 30 جامعة من أفضل مائة جامعة في أغلب التصنيفات العالمية، وتمتلك ست جامعات من أفضل عشر جامعات في العالم.
الطريق إلى المستقبل يكتبه العلماء في المعامل والمنصات الذكية.
محمد بن راشد.. شكرا على الأمل المتجدد الذي تنشره في أرجاء الوطن الحزين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة