مدينة الربيعين، الموصل، تحولت قبل عامين إلى عاصمة دولة «داعش» ٍ ، وذلك في عملية ٍ مريبة إثر انسحاب الجيش العراقي زمن حكم نوري المالكي دون أي مواجهة تذكر لتنظيم داعش، ووقف حينها خليفة «داعش» ً خطيبا في الجامع يقول للمصلين: «وليت عليكم ولست بخيركم»!
مدينة الربيعين، الموصل، تحولت قبل عامين إلى عاصمة دولة «داعش» ٍ ، وذلك في عملية ٍ مريبة إثر انسحاب الجيش العراقي زمن حكم نوري المالكي دون أي مواجهة تذكر لتنظيم داعش، ووقف حينها خليفة «داعش» ً خطيبا في الجامع يقول للمصلين: «وليت عليكم ولست بخيركم»!
ٍ تمت الإشارة أكثر من مرة في هذه المساحة إلى أن تنظيم داعش ليس أقوى من التنظيمات الإرهابية التي ً سبقته قديم ً ا وحديثا، وعلى رأسها تنظيم القاعدة، ولكن المشكلة الحقيقية التي منحته هذه المكانة، هي عدم رغبة أحد على المستوى الدولي في وضع حد ً له، ومع صحة هذا الكلام فإن أحدا لا يجب أن يستهين بقدرته على إيجاع القوات العراقية المختلطة التي تحشد له على أطراف الموصل. ٍ
مشكلة الموصل تختصر مشكلة العراق اليوم، فالدولة العراقية شبه مختطفة ٍ من دولة ٍ خارجية هي إيران، فإيران تتحكم في ساسة العراق وأمواله وجيشه، وفي برلمانه وأحزابه، ولئن كان للبعض مواقف وطنية، فهي الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، وإيران ضمن استراتيجية بناء الميليشيات وتسليحها لم تنجح في مكان كما نجحت في العراق، فلئن كان في لبنان ميليشيا واحدةٌ ، هي ميليشيا حزب الله، وفي اليمن ميليشيا واحدةٌ هي ميليشيا الحوثي، فإن لإيران في العراق أكثر من سبعين ميليشيا، كلها مسلحة وكلها تتنافس في تقديم الولاء للولي الفقيه في طهران، وكلها تخدم مصالح إيران.
قاسم سليماني يدير المعارك في طول العراق وعرضه، كأنه المندوب السامي للمحتل الإيراني، وليس لدى مسؤولي العراق إلا السمع والطاعة له رغب ً ا ورهبا، وهو يمثل العصا الإيرانية الخشنة للقضاء على وحدة واستقلال العراق والقضاء على غناه الحضاري وتنوعه الديني والإثني والمذهبي.
ً لقد نجحت إيران نجاح ً ا كبير ٍ ا في سحق هوية العراق كدولة ٍ ، وهويته كشعب متعدد ومتنوع، وسعت جهدها لاعتماد استراتيجية طائفية فاقعة تريد أن تصبغ العراق بلونها الأحمر القاني، ويمكن لأي متابعٍ ٍ أو أي مواطن عراقي أن يكتشف كيف قامت إيران بتطييف العملية السياسية برمتها، وكيف لم تكتف ببناء الميليشيات فحسب، بل سعت جهدها لتطييف الجيش العراقي نفسه، وكيف سعت جهدها لتغيير التركيبة الديموغرافية في مواضع كثيرة من العراق، عبر القتل والتهجير والمذابح.
هذا التغول الإيراني الطائفي الصارخ داخل العراق منح تركيا على سبيل المثال الحق للتدخل في معركة الموصل، حماية للمكون التركماني في الموصل وحماية للمكون السني هناك، بحسب ما يصرح به ساسة تركيا، بحيث لا يحدث في الموصل مثل ما حدث في الفلوجة من قبل، من قتل طائفي مريع، فلا توجد ّ بالمكو ً ن السني تحديدا وبالمدنيين السنة أو حتى للأسف جهةٌ في كل العسكر المحتشد حول الموصل معنيةٌ من الأقليات الأخرى، كالإيزيديين والمسيحيين والشبك وغيرهم، فصوت الطائفية هو الأعلى ورائحتها تزكم أنوف أهل الموصل.
ً تمثل معركة الموصل نموذج ٍ ا للمعارك المختلطة في أبعاد ٌ متعددة، فهي معركة لها بعد دولي بحضور التحالف الدولي ضد «داعش» في المعركة، ولها بعد إقليمي بحضور إيران الطاغي في المعركة، وفي سعي تركيا الحثيث أن تكون لها كلمة في مستقبل أهل الموصل، وكذلك في حرص الدول العربية على حماية المدنيين من أهل الموصل من أي مجازر يتهيأ لها الطائفيون.
ٌ وبعد آخر كذلك يتجلى في خطورة الصراع الهوياتي العميق، بحيث يخرج سنة الموصل من بشاعة وتوحش «داعش» ٍ ليجدوا أنفسهم تحت نير الطائفية العسكرية المتوحشة من كل شكل ٍ ولون، ومهما سعت تصريحات بعض ساسة العراق لنفي هذه الطائفية أو أي دورٍ لها، فإن القوى العسكرية على الأرض كلها طائفية ربما باستثناء قوات البيشمركة العراقية، التي صرح بارزاني بأنها لن تدخل الموصل.
من الأبعاد المهمة في المعارك المختلطة هي أنها لا تتم بحسب الحق، حق الدولة وحق الشعب ولا عبر القوانين الدولية، ولكنها تتم بحسب التوازنات محلي ً ا وإقليمي ً ا ودوليا، بمعنى أنها تأتي رغبةً من الإدارة ً الأميركية الحالية الآفلة لتسجل في تاريخها أنها صنعت شيئا يذكر ضد تنظيم داعش الإرهابي، وهي تحضر ً لما يشبه ذلك في الرقة أيضا، ولكن مع اختلاف كبير في التوازنات هناك، فغياب الدولة العراقية عن العراق، وفقدانها الممنهج لحق احتكار السلاح والعنف جعل المشهد مختلطا بشكل كبير.
ً وشعبا أن يتخلص من هذا الإرهاب ٌ حرب تنظيم داعش الإرهابي حرب واجبةٌ، ومن حق العراق دولةً المتوحش والبشع، وهي حرب مستحقة للعالم كله ضد الإرهاب، ولكن أحد أبعاد المشكلة هي أنها حرب ً توازنات وليست حربا عادلةً كما تقدم، بمعنى أنها مع تركيزها على تنظيم داعش الإرهابي، فإنها تغض الطرف ً تماما عن ميليشيات الإرهاب الشيعية في العراق، التي هي بالعشرات.
لئن كانت معركة الموصل هي الأقوى في مواجهة «داعش» ٍ ، فإنها ستورث العراق مشكلات ً أكبر مستقبليا، ً وشعبا.
بحيث تتغول الميليشيات الإرهابية الشيعية وتهدد أمن واستقرار العراق، دولةً ً ما لم تتم حماية مكونات الشعب العراقي كلها بنفس القدر ورعايتها بذات الحجم، وتحديد ّ ا المكون السني، ً
فإن الغضب السني سيكون قاسيا، وستوجد تنظيمات أخرى غير «داعش»، وربما أبشع منه، للتعبير عن ذلك ٍ وتكوين بيئة حاضنة جديدة، وكما ورث تنظيم داعش تنظيم القاعدة في العراق، فستوجد تنظيمات ترث تركة «داعش» الإرهابية.
نقلا عن صحيفة "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة