تأخر كثيراً الحوار حول جذور الأزمة الاقتصادية فى مصر، واقتصر الجدل على تكرار الشكوى من آثارها
تأخر كثيراً الحوار حول جذور الأزمة الاقتصادية فى مصر، واقتصر الجدل على تكرار الشكوى من آثارها، والمعانة اليومية من تبعاتها، وتوصيف بعض مظاهرها، إلى أن بادر الدكتور حازم الببلاوى (رئيس الوزراء الأسبق)، وهو اقتصادى مرموق، بكتابة مقالة يناقش فيها ما أورده فى مقالة سابقة اقتصادى لا يقل براعة هو الدكتور جلال أمين، الذى سرعان ما كتب رداً على الرد مؤكداً - حسب قوله - أن «الدكتور الببلاوى حوَّل الحديث المنفرد إلى حوار، وخيراً ما صنع فما أحوجنا نحن الاقتصاديين المصريين إلى الاشتراك الجدى فى مثل هذا الحوار».
ولعل أبرز ما يميز هذا الحوار أنه لم يقف عند حدود رصد التطورات الاقتصادية والإجراءات والسياسات المقترحة والمنفذة خلال السنوات الأخيرة ولكنه استرجع بحصافة أسس النظرية الاقتصادية ( وهى من أرقى فروع العلوم الاجتماعية) ليبحث فى قوانينها عن الملائم لتفسير وتحليل أزمتنا الاقتصادية الراهنة، واستحضر تجارب عالمية فى مواجهة أزمات مشابهة وربما كانت أكثر ضراوة.
الواقع أن الذى أحدث هذه النقلة الجوهرية، هو عودة الدكتور أمين إلى أصول الفكر الاقتصادى وتاريخ الاقتصاد المصرى، إذ تتلخص رؤيته فى: أن الفكر الاقتصادى المعروف بالنظرية الكينزية (اشتقاقاً من اسم الاقتصادى الانجليزى الشهير كينز) يصلح للقضاء على الأزمة الاقتصادية فى مصر مثلما نجح فى انتشال الاقتصاد الغربى من الكساد العظيم فى الثلاثينيات. كما أن الحل الكينزى لمشكلة «البطالة» يتطلب زيادة الطلب الكلى فى الاقتصاد من خلال ضخ المزيد من الانفاق (الحكومى والخاص), وقد أصبح من الشائع القول إن الوصفة الكينزية تحتاج إلى دور أكبر وتدخل أوسع للحكومة.
وبناءً عليه يرى د. جلال أن الحكومة - فى مواجهة الأزمة فى مصر- بدلاً من أن تفعل اللازم لزيادة الطلب تبدو وكأنها تفعل العكس بالضبط فتزيد الضرائب بدلا من خفضها وتصر على الإنفاق على مشروعات ضخمة محدودة الأثر على التشغيل والعمالة.
الاستشهاد بالفكر والسياسة الكينزية حَفَزَ د. الببلاوى للتذكير بالنظرية الاقتصادية الأم (التقليدية لأدم سميث وتابعيه) ليخلص فى مقالته إلى صلاحيتها وحدها لظروف الدول النامية التى تتسم اقتصادياتها: بضعف وعدم مرونة الجهاز الإنتاجي. وضعف القدرة على الادخار، ونقص المدخرات عن الاستثمارات المطلوبة.
ولأنه مقتنع بأن الاقتصاد المصرى يعانى من الظاهرتين فهو يرى أن العلاج يتطلب مزيداً من الادخار المحلى (ليس زيادة الإنفاق الاستهلاكى كما يقترحها د. جلال) وتوجيه الصناعة إلى التصدير.
منذ سنوات بعيدة، علمنى الراحل الدكتور رفعت المحجوب أن النظرية التقليدية نظرية فى التنمية بينما الكينزية نظرية فى الطلب الفَعَّال. ولست أرى خلافاً كبيراً بين الأستاذين المتحاورين فى تحليلهما للأسس النظرية والتطبيقية، ولكن يبقى السؤال الأساسى هو: هل السبب الاقتصادى لأزمتنا الراهنة يكمن فى انخفاض مستوى الطلب فى المجتمع أم فى نقص الادخار؟ لا يزال د.جلال أمين يرى أن «ضائقة» مصر الحالية تشبه أزمة الغرب فى الثلاثينيات وتتمثل فى البطالة وضعف الميل للاستثمار وليس قلة الادخار (على النحو الذى يراه د.الببلاوى). صحيح، أن مصر تعانى من مشكلة بطالة خاصة بين خريجى التعليم وعلى الأخص التعليم الجامعى. وبعد أن كانت معدلات البطالة قد بدأت فى التراجع تدريجياً وأن بعض الأنشطة الانتاجية كانت تفتقر إلى العمالة الماهرة فقد أخذت فى التزايد بعد 2011 إلى أن بلغت أكثر من 13% من القوة العاملة. غير أن ما يختلف فيه الاقتصاد المصرى عن الاقتصادات المتقدمة فى الثلاثينيات أن الأخيرة كانت لديها طاقات إنتاجية كبيرة معطلة بسبب نقص الطلب على منتجاتها من السلع. الجهاز الإنتاجى فى مصر ضعيف ومحدود وغير مرن، وربما تكون بعض الطاقات تعطلت فى الفترة الأخيرة ولكن البطالة لا ترجع إلى نقص الطلب فى المجتمع.
جميعنا، يعرف أن معدلات النمو الاقتصادى تدهورت بشدة منذ 2011. ولكن ما تحقق من زيادة ضئيلة فى الناتج كان مصدره هو الزيادة فى الطلب الاستهلاكى الذى زاد رغم الأزمة بنسب تفوق أحيانا نسبة النمو فى الناتج. الحل لن يكون - كما يلوح للدكتور جلال - فى زيادة الإنفاق الاستهلاكى الذى سيؤدى إلى مزيد من الضغوط التضخمية وزيادة فاتورة الواردات.
من ناحية أخرى، وعلى عكس ما يَشِيع بين غير المتخصصين وحتى بين اقتصاديين معروفين، ربما تغيب عنهم حقيقة ارقام وإحصاءات الحسابات القومية، فإن الادخار ليس منخفضاً فى مصر. كان غريبا بعض الشىء أن يكتب د. جلال فى رده على د. الببلاوى «من المسلم به أن مصر تعانى من نقص الادخار...» لا يبدو واضحاً المقصود بالادخار ومؤشرات النقص فيه. فى معادلة التوازن الاقتصادى الكلى لا بد أن يتساوى الاستثمار مع الادخار، الذى يتكون من مجموع مدخرات القطاع العائلى، زائداً فائض قطاعات الأعمال، زائداً فائض الموازنة العامة (إذا حققت فائضا) مضافاً إلى ماسبق الادخار الأجنبى (مقيساً بالعجز فى الحساب الجارى لميزان المدفوعات). حينما تحقق أعلى معدل نمو اقتصادى (7.2%) فى 7/2008 كان معدل الاستثمار حوالى 23% وهو أقل من نسبة الادخار غير الحكومى التى بلغت ما يقرب من 24% من الناتج المحلى الإجمالى، وتم سد عجز الموانة (6.8%) من خلال المدخرات الخارجية.
كان من المخطط أن يرتفع معدل الاستثمار إلى 28% يوفر تمويله عن طريق تخفيض عجز الموازنة إلى أقل من 5% وزيادة المدخرات المحلية غير الحكومية نتيجة زيادة الدخل. فى الفترة الأخيرة انخفضت معدلات النمو والاستثمار بشدة.. وعلى الرغم من ذلك بقيت نسبة مدخرات القطاع العائلى والأعمال الخاص حول 20% من الناتج المحلى الإجمالى (وكأن الميل المتوسط للادخار أعلى مما يشاع عن انخفاض الادخار فى مصر). لكن تزايد عجز الموازنة فى 12-2014 إلى ضعف النسب السابقة ليقرب من 14% استحوز على التمويل المتاح وانخفض معدل الاستثمار إلى حوالى 12% فقط.
قد لا يكون اللجوء إلى الوصفة الكينزية مطلوباً تماماً ومع ذلك ربما نستفيد من أسسها ليس فى زيادة الإنفاق الجارى ولكن فى تغيير السياسات وقواعد الإدارة الكلية للاقتصاد القومى بما يرفع معدل الاستثمار (توقف الموازنة عن الطغيان على المدخرات الوطنية) ويفسح المجال أمام الاستثمار المنتج المحلى والأجنبي.. حمى الله مصر.
نقلا عن / الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة