أمهات في الشاشة الصغيرة.. فنانات الإحساس العالي والقلب الحنون
سيدات الشاشة العربية نجحن في تجسيد دور الأم بفطرة الأمومة التي يشعرن بها خلف الكاميرا حتى لو لم يكن لهن أولاد.
تختزن حكاية الأم في الدراما العربية، أي أم وأي حكاية، طاقة وجدانية عالية تنادي شغاف القلب قبل العقل، على نحو جعل أدوار الأمومة أدوار بطولة مهما كانت مساحتها على الورق المكتوب أو ترتيبها في الحكاية، إذ من الصعب ألا يتقاطع جزء من حكاياتهن مع ما هو شخصي فينا، وبالتالي من الصعب أن تمر مشاهد تتعلق بهن دون أن تترك أثرها في القلب وترسخ في الذاكرة.
وليس أدل من ذلك من الأثر العاطفي في قلوبنا الذي خلفته تترات المسلسلات وأغانيها التي كان موضوعها الأم، ألسنا جميعاً من المحيط إلى الخليج ننشد حتى اليوم مع "غوار الطوشة" منذ سبعينيات القرن الفائت أغنية "يا مو.. يا ست الحبايب" وتدمع عيوننا على وقع كلماتها البسيطة العفوية؟!
ألسنا نحفظ جميعاً عن ظهر قلب أغنية محمد منير في تتر مسلسل "أمي الحبيبة"، ونردد معه: "أمي الحبيبة أمي الحنون.. يا قلب أبيض من الندى.. يا صورة عايشة فى العيون".. وتتهجى قلوبنا الرجاء ذاته في كل مرة: "سامحيني يا حضن الحنان.. سامحيني"؟
ذلك المخزون الوجداني، نجحت العديد من سيدات الشاشة العربية في تجسيده بفطرة الأمومة ذاتها التي يشعرن بها خلف الكاميرا، حتى لو لم يكن لهن أولاد، فكان أداؤهن أمام الكاميرا ينبضن بإحساس حنون، يختلط فيه ما هو شخصي وواقعي، مع البناء الدرامي للشخصية الدرامية، ويتجاوز الكلام المكتوب على الورق، ليذوب دور الأم فيهن، ويذبن فيه.
كثير من الفنانات نجحن في ربط حبل السرة مع أدوارهن أمام الكاميرا.. نختار منهن، على سبيل المثال فقط، سبع سيدات قدمن أدوار الأمهات أمام الكاميرا دون تمثيل أو تجميل أو تصنع، وتركن في قلوبنا الأثر الذي لا ينسى.
هدى سلطان.. أم الجميع
لم يكن إصرار الفنانة المصرية الراحلة هدى سلطان على تجسيد أدوار الأمهات منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، سوى نموذج فني حقيقي لحسن إدارة الموهبة، وإمكانيات التعبير واختمارها بمعنى كمال الكلمة.. إذ جسدت دور الأم المصرية بحرفية وبمنتهى المصداقية.. وكانت في كل أدوار الأمهات التي قدمتها تحرص، كما تقول، أن تجسد شخصية الأم بالمعنى الذي تحدث عنه القرآن الكريم: مثالية وحنان وعطف.
ومن هنا كانت حكاية هدى سلطان الفنية تأخذ مساراً مختلفاً، فجسدت شخصية "الحاجة فاطمة تعلبة" في مسلسل " الوتد" التي عرفت بها طويلاً، وربما كان أهم أدوارها في الدراما المصرية، وكم أحببناها وشعرنا بقربها من صور أمهاتنا في شخصية (أم حسن) في (أرابيسك) وشخصية (أم رحيّم) في (الليل وآخره) وقد عبرت في كليهما عن جوهر ثقافة الشعب المصري وقيمه الإنسانية.
هدى سلطان كانت أماً حقيقة لكل من وقف إلى جانبها أمام الكاميرا، حتى استحقت لقب "أم الفنانين".
كريمة مختار.. ماما نونا
لم يكن حدث وفاة "ماما نونا" التي جسدتها الفنان المصرية الراحلة كريمة مختار في مسلسل "يتربى في عزو" مجرد مشهد درامي في مسلسل، وإنما كان حدثاً شعبياً وشخصياً لكل من شاهد المسلسل، حتى بات الحزن عليها شأناً عاماً، سبب للبعض أزمات صحية، ودفع الكثيرين إلى أحضان أمهاتهم لتعويض ما فات "حمادة" برحيل أمه.
سر السحر في "ماما نونا" لا يكمن في الورق المكتوب بذكاء عاطفي، وإنما بروح الممثلة كريمة مختار التي توحدت مع الشخصية، وما اختزنته من عاطفة خلف الكاميرا وأمامها في نحو 115 عملاً فنياً، ما بين السينما والتلفزيون والإذاعة، قدمتها منذ سبعينيات القرن الماضي، كانت معظمها أدوار أمهات، حتى قبل أن تكون أماً حقيقية.
برعت الراحلة الكبيرة في تقديم تنويعات على شخصية الأم وإن تقاطعت معظمها عند حنان الأم وطيبتها، كان أبرزها "ماما نونا" في التلفزيون ، أما في السينما فيخلد في الذاكرة شخصيتها "زينب" في فيلم "الحفيد"، وكانت أطيب وأحن أم في المسرح من خلال شخصيتها "زينب" في مسرحية "العيال كبرت".
منى واصف.. أم بكل الألوان
تعد الفنانة السورية القديرة منى واصف الأشهر من بين من أخلص لتقديم دور الأم في الدراما السورية، وقد ارتبط اسمها بأدوار الأمومة في أكثر من عمل فني وامتازت تلك الأدوار بتنوعها الكبير على صعيد المضمون، على نحو كان من الصعب تحديد ملامح عامة لطبيعة شخصيات الأم التي تؤديها، لكنها كثيراً ما كانت تتجاوز الصورة المعتادة للأم- ربة البيت، نحو أم تنطوي شخصيتها على أبعاد فكرية وإشكالية.
عادة ما تتبع منى واصف في اشتغالها على الأدوار تكتيكاً خاصاً بها كممثلة، فتقول في حوار صحفي إنها لا تحفظ شخصيتها بشكل تلقيني، وإنما تأخذها معها أينما ذهبت لمقارنتها مع من يشبهها في الواقع، وذلك بهدف تحقيق شرطي المصداقية والموضوعية في تجسيد هذه الشخصية، أما بالنسبة لأدوار الأمهات، ففي الغالب كانت لا تريد من النص أكثر من المعنى، لتعيد تشكيله بفطرة الأم، معتمدة على لغة جسدها، ولاسيما الوجه، لتعبر ببلاغة عما يعتمر في قلب الشخصية بقليل من الكلام وبكثير من الأحاسيس.
هالة شوكت.. الأم الجميلة
اشتهرت الفنانة السورية الراحلة هالة شوكت في بداية تجربتها الفنية بأدوار الفتاة الجميلة، إلا أنها سرعان ما انتقلت لأداء دور الأم، لتكون واحدة من أصدق من أديّن هذا الدور في الدراما السورية، بدءاً من دور الأم في مسلسل "الأجنحة".. ولعل بلوغ هذا الأمر كان مبعث سعادة لهالة شوكت، إذ لطالما عانت من مسألة تقديم المخرجين لجمالها على موهبتها الفنية في إسناد الأدوار التمثيلية لها.
قدمت هالة شوكت واحداً من أجمل أدوارها وأشهرها في مسلسل المخرج بسام الملا "الخوالي"، بشخصية "أم نصار"، فضلاً عن شخصية "أم المعلم عمر" في مسلسل "ليالي الصالحية" قبل أن تنهي تجربتها الفنية بدور الأم أيضا في مسلسل "كسر الخواطر".
أدوار الأمومة التي أدتها الراحلة هالة شوكت بدت في معظمها ذات نمط درامي واحد، فهي الأم الحنون، المشغول بالها دوماً على أولادها، وهي حيناً مغلوبة على أمرها، وحيناً ثكلى بولد غائب ونادراً ما قدمت هالة شوكت دور المرأة- الأم القوية.
حياة الفهد.. "أم مساعد" يا بحر
لم تكن شخصية "أم مساعد " التي قدمتها، رغم صغر سنها آنذاك، في فيلم "بس يا بحر" (1971)، سوى شهادة بالإمكانيات الكبيرة للفنانة الخليجية القديرة حياة الفهد، إذ لم يزل أداؤها الرفيع، بكل مافيه من تراجيديا ثقيلة لحياة أم أنهكها الفقر والعجز والفاجعة راسخاً في الأذهان، ولو أنها لم تقدم سواه لكانت أيضاً من أبرز من قدمن أدوار الأمهات.
إلا أن الفنانة حياة الفهد لا تتوقف عند هذا الحد، بل اجتهدت وعلى مدار نحو نصف قرن من تجربتها الفنية في تقديم أنماط مختلفة للأمهات، من الناحية السلوكية والاجتماعية.
المثير أن الفنانة الفهد التي عرفت عربياً بشخصية "خالتي قماشة"، برعت في أداء الشخصيات القاسية والتماهي معها، ارتبطت في أذهان الناس بوصفها الأم الطيبة، وكأن الجمهور تواطأ مع قناعتها الفنية بأن " التنويع مطلوب للفنان وللمشاهدين" وظل قريباً من وجهها الحقيقي للأم الطيبة.
سعاد عبد الله.. أم البنات
نجحت الفنانة الخليجية سعاد عبد الله في تقديم أدوار الأمهات عبر أداء يمكن وصفه بالسهل الممتنع والاشتغال من الداخل إلى الخارج.
أبدعت في تقديم تنويعات على شخصية الأم من الشخصيات المستكينة المعنّفة، فالمرأة القاسية صاحبة الجبروت، وصولاً إلى الأم المتمردة التي تتحمل مـسؤولية أسرتها.. كان لافتاً بينها شخصية الأم العمياء، التي تنتظر ابنها الذي خرج في رحلة بحرية ولم يعد في المسلسل التراثي "شاهين"، وتجسيدها شخصية "غنيمة" الأم القوية التي تنتظر في مسلسل "ساق البامبو" عودة ابنها من الحرب وتصر رغم كل انتكاساتها العاطفية على الحفاظ على اسم عائلتها اجتماعياً.
وإلى جانب هذين الدورين لا بد أن نتوقف عند محطات نوعية في تقديمها لشخصيات الأم منها شخصيتها في مسلسل "أم البنات" الذي أدت فيه شخصية أم تتمرد على واقعها الاجتماعي وتبتعد عن محيطها لتؤسس حياة جديدة لبناتها، أما في مسلسل "أمنا رويحة الجنة " فكانت ترفع من شأن الأمومة بوصفها "الشعلة المتقدة العامرة بالوهج والعطاء والتحدي".
جولييت عواد.. أم أحمد الأيقونة
تؤمن الفنانة الأردنية القديرة جولييت عواد بأن على الدراما أن تكون "رسالة تتطابق مع توجهاتها الفكرية ومواقفها في الحياة"، وربما لهذا السبب كانت شخصيتها "أم أحمد" في المسلسل السوري "التغريبة الفلسطينية" الأكثر رسوخاً في الذاكرة الجمعية.
"أم أحمد" واحدة من الشخصيات العديدة التي قدمتها جولييت عواد من صلب تفكيرها والتزامها الفكري، ولكن فيه من الإحساس العالي، والأمانة في نقل أدق تفاصيل المرأة الفلسطينية بقوتها وحنانها وأمومتها ونضالها وقهرها وضعفها في آن واحد، ما يجعله الدور الأيقونة الذي يؤهلها لتكون واحدة ممن جسدن أدوار أمهات لا تنسى.
لم تنجب الفنانة جولييت عواد بقرار شخصي، ولكنها نجحت، بشكل لا يصدق، في تجسيد أدوار الأمومة بإيقاع عفوي، كأنها تعوض أمام الكاميرا ما فاتها في الحياة يكفي أن تحدق بملامح جولييت عواد في مشهد واحد يجمعها مع أولادها في التغريبة، لتدرك ذلك.