دفتر الدم المسفوح.. الإخوان يصعدون سلم العنف نحو الخازندار (١)
دورة حياة تنظيم الإخوان أقرب لفيلم سينمائي "أبيض وأسود" لم تطله يد العصر ولا أي تطور للعقلية البشرية، وظلت الاغتيالات هي نجم الشاشة الأول.
ولا تعرف جماعة الإخوان الحوار كوسيلة لحل الخلافات مع الخصوم، لكنها تدور حول العنف وأشكاله المختلفة، وفي القلب منه الاغتيال بالدرجة الأولى.
هذا الأمر نتاج أوامر مباشرة من مؤسس الجماعة، حسن البنا، الذي كان يعترف صراحة بأنه سيستخدم القوة عندما لا يجد غيرها، ما يعني أن المهادنة، إن حدثت أحيانا، هي مجرد تكتيك مرحلي للوصول إلى مرحلة القوة والتمكين التي تفرض فيها الجماعة فكرتها بالقوة على الجميع.
فترة الاستعداد
الاغتيال عند الإخوان أقرب لمسلسل متعدد الحلقات، تبدأ أحداثه عام 1945، حين انتهت الهدنة التي استغلها الإخوان في بناء أجهزة الجماعة، بموجب اتفاق مع حزب الوفد برعاية بريطانية.
هذا الاتفاق الموقع عام 1942، كان يقضي بأن تكف الجماعة عن مناكفة حزب الوفد في إدارته للدولة، والانسحاب من الحياة السياسية بشكل مؤقت، على أن تسمح لها الحكومة الوفدية بالتوسع في افتتاح أفرع الجماعة، مع التعهد بتقديم الدعم المالي المناسب للإنفاق عليها وأعضاء التنظيم العلني والسري.
في هذه الفترة تمكن "البنا" من التفرغ لإنشاء التنظيم السري المسلح "النظام الخاص" وكذلك جهاز الاستخبارات (لجنة المعلومات) ولجنة "الاتصال بالعالم الإسلامي"، وتمكن من افتتاح العديد من الشعب وزيارة العديد من القرى في الريف المصري ودشن دعاية كبيرة لجماعته باعتبارها جماعة دينية فقط.
وصب جهوده على تكوين "النظام الخاص" من أفراد الجماعة فكرًا وتنظيمًا، فأصدر رسالتين الأولى المنهج والثانية التعاليم، والرسالتان كانتا سريتين لا يطلع عليهما إلا أعضاء التنظيم الخاص.
هذه الرسائل تغرس في أعضاء التنظيم السري، أفكار الجماعة النهائية لكن في صيغة لغوية تحمل أكثر من معنى وعدم الوضوح، لتتيح له أن يراوغ إذا اضطر لتفسير أيٍ من مفردات الرسالة السرية.
استطاع البنا أن يقنع أتباعه في "النظام الخاص"، بأنهم نواة الجيش الإسلامي، ووضع على رأس هذا الجيش أو النظام الخاص، القيادي التاريخي، عبد الرحمن السندي الذي كان يأخذ البيعة على الموت للمرشد حسن البنا.
قام البنا بتوفير غطاء ديني لجرائم التنظيم السري عبر فتاوي الشيخ سيد سابق الذي كان ينظر لعمليات الاغتيال ويجد لها السند الشرعي. وفي نفس الوقت أوجد البنا، لأعضاء التنظيم الخاص، مدربين عسكريين على استخدام السلاح وصناعة العبوات الناسفة والقنابل بدائية الصنع.
بدايات العنف
وأتت ثمرة التربية الإخوانية سريعًا، فلم تمض بضع سنوات على تدريب هؤلاء الأعضاء عسكريا، إلا وظهر العنف في الحياة السياسية المصرية بشكل غير مألوف، ما رصده عبد الرحمن عمار وكيل الداخلية وحكمدار العاصمة آنذاك في مذكرة إلى وزير الداخلية.
جمع عمار أهم وليس كل جرائم الإخوان، فكتب يقول إن "الداخلية رصدت بوادر العنف في تصرف طالب بإحدى قرى مركز أجا خطب في الناس في 8 فبراير/ِشباط 1946، حاثاً إياهم على الانضمام لشعبة الإخوان المسلمين في تلك القرية، ومحرضاً على مقاومة كل من يتعرض لهذه الجماعة من رجال الإدارة (المحلية) وغيرهم، ولو أدى ذلك إلى استعمال السلاح".
ثم في 6 يوليو/تموز 1946، وقع صدام فى مدينة بورسعيد بين أعضاء الإخوان وخصوم (من حزب الوفد) استعمل فيه الإخوان القنابل والأسلحة وأسفر عن قتل أحد أعضاء الخصم وإصابة آخرين، وسجلت بذلك واقعة جنائية رقم 679 سنة 1946 قسم ثان بورسعيد.
وفي 10 ديسمبر/كانون أول 1946، ضٌبط بعض أفراد هذه الجماعة بمدينة الإسماعيلية، يقومون بتجارب لصنع القنابل والمفرقعات.
بتاريخ 24 ديسمبر/كانون أول 1946، سٌجلت وقائع إلقاء قنابل انفجرت فى عدة أماكن بمدينة القاهرة وضبط اثنان من مرتكبيها، كانا أعضاء في الإخوان في ذلك الوقت وقدما للمحكمة الجنائية، فقضت بإدانة أحدهما.
كما يشير عمار إلى تطور لافت للنظر وهو قيام فريق من جوالة الإخوان المسلمين فى 29 يونيو/حزيران 1947 بدائرة قسم (مركز) شرطة الخليفة، بالاعتداء على مأمور ( قائد) هذا القسم ورجاله.
وقد ثبت من تحقيق رقم 4726 سنة 1947 الإسماعيلية، أن أحد أفراد الإخوان ألقى قنبلة بفندق الملك جورج بالمدينة فانفجرت وأصيب من شظاياها عدة أشخاص.
وفي 19 يناير/كانون ثاني 1948، ضبطت الشرطة خمسة عشر شخصاً من جماعة الإخوان بمنطقة جبل المقطم يتدربون على استعمال الأسلحة النارية والمفرقعات والقنابل.
وبعد شهر من هذه الواقعة، اعتدى فريق من الإخوان على مخالفين لهم فى الرأي، بالأعيرة النارية وقتلوا أحدهم، بناحية كوم النور في مركز ميت غمر، وسٌجلت بذلك قضية جنائية رقم 1407 سنة 1948.
كان من الواضح أن الجماعة نضحت بأفكار البنا وأخرجتها للتطبيق عبر اعتداءات على المصريين البسطاء أو رجال القانون أو رجال الشرطة.
اغتيال الخازندار
في صباح يوم 22 مارس/آذار 1948، خرج القاضي أحمد الخازندار من منزله بشارع رياض بحلوان ليستقل القطار المتجه إلى وسط مدينة القاهرة حيث مقر محكمته.
وكان في حوزته ملفات قضية كان ينظر فيها وتعرف بقضية "تفجيرات سينما مترو"، والتي اتهم فيها عدد من المنتمين لجماعة الإخوان.
وما إن خرج من باب مسكنه حتى فوجئ بشخصين هما عضوا جماعة الإخوان، حسن عبد الحافظ ومحمود زينهم، يطلقان عليه وابلاً من الرصاص من مسدسين عيار 9 ملم، في صدره مباشرة.
أصيب الخازندار بتسع رصاصات ليسقط صريعا وسط دمائه، فيما حاول الجناة الهرب سريعا والتصرف بهدوء لكن سكان حي حلوان الهادئ تجمعوا عقب سماع صوت الرصاصات وطاردوا المجرمين.
فألقى أحد الجناة قنبلة على الناس وأصاب البعض، لكن السكان نجحوا في النهاية في إلقاء القبض على المنفذين وتسليمهما للشرطة.
وعثر بحوزتهما على أوراق تثبت انتماءهما لجماعة الإخوان، لتقوم النيابة باستدعاء حسن البنا، مرشد الجماعة آنذاك، لسؤاله حول ما إذا كان يعرف الجناة.
إلا أن البنا أنكر معرفته بهما تماما، بيد أن النيابة تمكنت من إثبات أن المتهم الأول حسن عبد الحافظ كان سكرتيره الخاص، وهنا اعترف البنا بمعرفته بالمتهم، إلا أنه نفى علمه بنية المتهمين اغتيال القاضي الخازندار.
حاول الإخوان تبرير جريمة اغتيال القاضي الخازندار بأنه أصدر حكما في قضية اعتداء بعض شباب الإخوان على جنود بريطانيين فى الإسكندرية فى عام 1947، وحكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة.
لكن هذه القضية مفككة ومزعومة ولا أصل لها في سجلات تاريخ العمليات الفدائية ضد الإنجليز في الإسكندرية التي رحلت عنها القوات البريطانية قبل تاريخ العملية، إلى مدن القناة. لكن المؤكد أن الخازندار كان سيحكم في قضايا تفجيرات الإخوان "تفجيرات سينما مترو".
وعندما فشل الإخوان في إثارة التعاطف مع جريمة اغتيال الخازندار، حاولوا تبرئة حسن البنا وإلصاق التهمة بعبد الرحمن السندي، قائد التنظيم السري، سواء في مذكرات تلميذه النجيب أحمد عادل كمال، أحد قيادات مؤسسي التنظيم الخاص، أو حتى صلاح شادي الذي يدافع عن الجماعة ويعادي عبد الرحمن السندي.
aXA6IDMuMTI5LjQ1LjE0NCA= جزيرة ام اند امز