كنا في المقال السابق قد تناولنا ملمحين من تلك التي اتسم بها سلوك جماعة الإخوان في الشهور والسنوات القليلة التالية لفض اعتصامي رابعة والنهضة، وظلت ملاصقة للجماعة حتى اليوم.
ونشير هنا إلى الملمح الثالث الذي يتمثل في إقدام الجماعة علناً على تشكيل مجموعات إرهابية صريحة أسسها وقادها وضمت قيادات وأعضاء من الجماعة، وكان أبرزها كل من: حركة سواعد مصر (حسم)، وأجناد مصر، ولواء الثورة.
وقد ارتكبت هذه المجموعات الإخوانية الصرفة ما بين عامي 2014 و2020، عشرات من العمليات الإرهابية شديدة الخطورة، والتي من بينها اغتيال النائب العام الأسبق هشام بركات ومحاولات فاشلة لاغتيال قضاة آخرين وأيضاً مفتي مصر الأسبق الشيخ علي جمعة، كذلك هجمات وتفجيرات عديدة أسقطت عشرات الشهداء والجرحى من رجال الجيش والشرطة وأصابت عدداً من مقارهما ونقاط ارتكازهما، وتفجير بطريركية الأقباط الأرثوذكس المصريين بالقاهرة وعدد من الكنائس والأديرة بمحافظات أخرى، وقتل وإصابة العديد من السائحين الأجانب في مصر من جنسيات متنوعة ومحاولة تفجير القنصلية الإيطالية بالقاهرة، وعديد من محاولات تفجير وتخريب المرافق العامة وأبرزها محطات الكهرباء، وغير هذا من عمليات إرهابية تعد هي الأكثر عدداً وخطورة في تاريخ جماعة الإخوان منذ تأسيسها.
ويتمثل الملمح الرابع والأخير للجماعة، وهو مكمل للملمح الأول، في أنه نتيجة للملمحين الثاني والثالث واندفاع الجماعة وانخراطها الكامل في مسار العنف والإرهاب، فقد تعاظم الحصار المجتمعي والسياسي والأمني الداخلي والخارجي، نظراً لطبيعتها التي بدت شديدة الوضوح كجماعة دينية متطرفة وإرهابية.
وقد تفاعلت هذه العزلة المتزايدة للجماعة، مع حبس الغالبية العظمى من قياداتها العليا والوسطى بالسجون المصرية إثر محاكمات متعددة، وفرار من تبقى منهم إلى عديد من البلدان خارج مصر، لتؤدي إلى دخول الجماعة لمرحلة غير مسبوقة في تاريخها من التشققات والصراعات الداخلية التي راحت تجتاح صفوفها بين مختلف هذه البلدان.
ولم يتوقف الأمر عند تعدد مراكز قيادة الجماعة بين هذه البلدان وزعم كل منها أنه "القيادة الشرعية" لها، بل تفاقم ليصل لتبادل للاتهامات بكل أنواعها بينهم، من سياسية وأمنية ومالية وأخلاقية، بمستويات ساهمت كثيراً في اعتزال مزيد من أعضاء الجماعة في مصر وخروجهم من صفوفها، بعد انهيار الثقة الكبير الذي أصابهم في مراكز قيادة الخارج المتصارعة بلا هوادة.
وقد ضاعف من تشقق الجماعة في الخارج والداخل وتقلصها وعزلها الكبير في المجتمع المصري، فشلها حتى في استغلال بعض من "الأوجاع" الاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها مصر خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، في ظل متغيرات عالمية خارجية صعبة، ومرحلة تحول وبناء اقتصادي حرجة داخلياً، لتحريض المصريين وتعبئتهم للخروج على نظام الحكم، وأخفقت دعوات الجماعة لهذا في عشرات التواريخ والمناسبات خلال تلك الأعوام.
ويبدو جلياً بلا مراء للدارس المدقق في تطور جماعة الإخوان، أنها تمر خلال هذه الأعوام بمرحلة مختلفة نوعياً وجذرياً عما شهدته في تاريخها كله. وتتعدد ملامح هذه المرحلة الحالية، من تنظيمية وفكرية وحركية ومعنوية وغيرها، لتصب جميعها في نتيجة واحدة: بقايا جماعة ذات رؤوس متعددة متباينة (إن لم تكن بالفعل أصبحت عدة جماعات)، وتراجع هائل في صفوفها التنظيمية، مع فقدان شبه تام لقدرتها على أي تجنيد جديد، وفي تأثيراتها القديمة على الرأي العام المصري الذي تحول معظمه للعداء لها، وتشتت وتناقض فكري غير مسبوقين، وفقدان مروع لعلاقاتها الدولية التي كانت تبنيها على سمعتها المزيفة بأنها جماعة إسلامية سلمية معتدلة كانت تصلح بديلاً لنظم الحكم القائمة في بلادنا، وانهيار إلى القاع لوجود فروعها العربية في الحكم أو قريبة منه، ومعه شعبية أضحت جزءاً من تاريخ مضى.
فكل الأدوار الأخرى التنظيمية والحركية والجماهيرية والمالية وغيرها، التي كانت حكراً على الجماعة وقت وجودها ووحدتها وقوتها، قد تلاشت أو هي على وشك هذا، ولم يبق لديها، أو يحل محلها، سوى ذلك الإعلام الخاص بفرقها المختلفة وببعض الملتحقة بهم، لكي تدخل بقايا الجماعة في منعطف تاريخي غير مسبوق منذ تأسيسها.
والأكثر رجحاناً هو أننا الآن أمام عملية تحول تاريخية كبرى وتسير بسرعة كبيرة، وهي تحول الجماعة إلى جماعات صغيرة الحجم ذات طابع احتجاجي أو انقلابي عنيف، سيكون بينها من التعارض والصراعات ما سيزيد من تقزم كل منها، وربما يضيف مزيداً من التطرف الفكري والحركي للبعض منها، مما سيفقدها – وغالباً لآماد غير منظورة – جاذبيتها التاريخية القديمة لمختلف الطبقات والفئات المصرية التي كانت تنخرط فيها اعتقاداً في وسطيتها واعتدالها وسلميتها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة