لقرابة خمسة وثمانين عاماً، ومنذ تأسيسها عام 1928 وحتى انهيار حكمها البائس لمصر عاماً واحداً، بثورة شعبها العظيم في 30 يونيو/حزيران 2013، ظلت جماعة الإخوان تحاول عبر مختلف أجيالها الترويج لفكرتين رئيسيتين لتوسيع انتشارها سواء في مصر أو في عدد من دول العالم
وقد نجحت الجماعة خلال تلك السنوات، وباستغلال مكثف ومتواصل للفكرتين المذكورتين، أن تصل لتأسيس فروع وتوابع لها في عشرات من الدول، ساعية لإعطاء وترويج الانطباع لدى صناع القرار والرأي العام، أنها الجماعة الأكبر والأهم على مستوى العالم، من تلك التي تنسب نفسها للإسلام.
والفكرة الأولى الرئيسية التي اعتمدت عليها الجماعة وروجت لها واستخدمتها في الترويج لنفسها، هي أنها جماعة وسطية سلمية متدرجة، ترفض استخدام العنف تجاه خصومها والمختلفين معها، وأنها لا تتبنى منهج الإقصاء والتكفير والتخوين تجاههم. وقد ركزت الدعاية الإخوانية على هذه الفكرة الأولى كثيراً وطويلاً، لتقارن نفسها بصورة مزيفة مع الجماعات التكفيرية والعنيفة التي ظهرت خلال العقود الأخيرة، وجاهرت بأفكارها هذه وبأفعالها الإرهابية. وسعت الجماعة لكسب مساحات من الدعاية والتصديق لفكرتها تلك خلال هذه العقود، دون أن تتورط أو تتجرأ ولو مرة واحدة على وصف أي من تلك الجماعات صريحة الإرهاب فكراً وممارسة، ولو مرة واحدة بأنها جماعات "إرهابية".
وكانت الفكرة الثانية الرئيسية للجماعة خلال تلك العقود الثمانية، هي أنها عبر هذا الأسلوب المزعوم في الوسطية والمنهج السلمي، سوف تصل إلى تأسيس ما تسميه "الدولة الإسلامية"، التي بحسب زعمها قد غابت عن العالم والمسلمين بعد سقوط الخلافة العثمانية عام 1924. وقد بذلت الجماعة جهوداً هائلة خلال تلك الفترة، خصوصاً في مصر، لتحقيق هذا المسعى الذي تصورت أنها فور الوصول إليه، فسوف تنفتح أمامها الآفاق إلى غير نهاية، لتحقيق أحلامها في السلطة والحكم وإخضاع المجتمعات والشعوب المسلمة لنظريتها ورؤيتها فيما تدعي أنه الإسلام الحقيقي.
وقد نجح الإخوان بزعم تبني هاتين الفكرتين، بالإضافة إلى القدرات التنظيمية والتجنيدية والمالية الهائلة للجماعة، في صياغة تلك المرحلة من تاريخ الحركات التي تنسب نفسها للإسلام الممتد من عام 1928 حتى عام 2013، بحيث هيمن فيها الإخوان على المشهد العالمي لتلك الحركات. ولقد ظهرت خلال تلك السنوات الخمس والثمانين حركات أخرى تنسب نفسها للإسلام، تعددت أسماؤها ومناطق ظهورها واختلفت في أفكارها وتنظيماتها عن الإخوان، ما بين سلفية وجهادية وتكفيرية، إلا أن الغلبة في المشهد العالمي ظلت قائمة للإخوان، الذين ظلوا يزعمون التمسك بالفكرتين الرئيسيتين المشار إليهما، للترويج لأنفسهم ونشر تنظيمهم. ولم تؤدِّ بعض الأحداث المهمة خلال هذه الفترة إلى تفكيك وكشف زيف الفكرتين، مثل ظهور كتابات وأفكار سيد قطب التكفيرية ومحاولة انقلابه العنيف عام 1965 في مصر، ولا تورط عناصر تنظيم إخوان سوريا عام 1982 في أحداث حلب وحماة، ولا انخراط الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر المحسوبة على الجماعة بدءاً من عام 1992 ولسبع سنوات تالية، في أعمال عنف كبرى وخطيرة.
وكان وصول الإخوان إلى حكم مصر عقب ثورة يناير/كانون الثاني 2011، بحسب رؤيتهم إنجازاً تاريخياً كاملاً للفكرتين الرئيسيتين للجماعة، سواء الزعم بأنها جماعة وسطية سلمية متدرجة، أو أنها نجحت في تأسيس وحكم "الدولة الإسلامية" الحقيقية المزعومة. ومن هنا أيضا كان سقوط الإخوان بإرادة شعبية هائلة بثورة المصريين العظيمة في يونيو/حزيران 2013 بعد عام واحد من حكمهم المنفرد لمصر، بمثابة قضاء مبرم على هذه الفكرة وإمكانية إعادة تحقيقها سواء في مصر أو أي بلد آخر. ففشل التنظيم الأم وقيادته المركزية في مصر في الحفاظ على إنجاز فكرتهم الرئيسية التي كانت ستتحول إلى مصدر إلهام لكل إخوان العالم في حالة نجاحها، أطاح بالنموذج الذي ظلت الجماعة تروج له طوال خمسة وثمانين عاما.
وعقب انهيار هذه الفكرة الثانية الرئيسية للإخوان، انهارت أيضا وللأبد الفكرة الأولى بأنهم جماعة وسطية سلمية متدرجة، سواء بفيضان الفكر التكفيري للجماعة بدءاً من منصة اعتصام رابعة العدوية وحتى اليوم، أو بأعمال العنف والإرهاب التي لم تتوقف عنها مجموعاتها لسنوات في مختلف أرجاء مصر، لتتحول وبسرعة إلى جماعة تتبنى أفكار التجهيل وأحيانا التكفير لخصومها، وأضحى العنف المسلح هو سبيلها الرئيسي لتحقيق أهدافها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة