الإخوان المسلمون في مصر لن يكونوا جزءًا من المشهد السياسي؛ فالجماعة التي تؤمن بالعنف وتُجيد التحريض عليه لا يمكن أن تكون جزءًا من أي عملية سياسية حتى ولو ادعت أنها جماعة دعوية أو راوغت في إظهار حقيقتها.
إن مشكلة الجماعة في أفكارها وليس في موقف السلطة منها؛ فخلاف الإخوان المسلمين مع كل مكونات الشعب المصري وليس مع السلطة السياسية ولا الأجهزة الأمنية. أزمة التنظيم في أفكاره المنحازة للعنف.
وحسمت الجماعة أمرها في قضية التغيير بالقوة، صحيح أنها لم تقم بإنشاء جناح عسكري بالمفهوم المتعارف عليه لدى التنظيمات الأكثر تطرفًا إلا في سنوات بعينها على طول مراحل النشأة، لكنها بنت قاعدة فكرية وفقهية لدى أتباعها تدفعهم لممارسة العنف في الوقت الذي تحدده الجماعة وبالشكل الذي تراه، وهذا ما حدث بالفعل بعد عام 2013، حيث قرر الدكتور محمد كمال، عضو مكتب إرشاد الإخوان، مع المكاتب الإدارية بالمحافظات واللجنة الإدارية العليا، الموكل لها إدارة شؤون التنظيم، بإجماع الآراء، ضرورة مواجهة السلطة في مصر بالعنف، فكان قرار إنشاء مليشيا "سواعد مصر.. حسم" مثالاً، وكان ذلك بعد اجتماع لجنة شرعية مشكلة من فقهاء وعلماء التنظيم! الذين أقروا استخدام العنف ضد السلطة بعد أن أنتجوا بحثًا كان عنوانه "فقه المقاومة الشرعية".
البحث الذي أنتجته اللجنة الفقهية المشكلة بقرار من عضو مكتب إرشاد الإخوان آنذاك، وبموافقة اللجنة الإدارية العليا هو أقرب في التصور للبحوث التي أنتجتها الجماعة الإسلامية المسلحة بمصر عندما قررت استخدام العنف، مثل بحثيها "ميثاق العمل الإسلامي" و"قتال الطائفة الممتنعة"، وهو بمثابة خيار فقهي واعتراف باستخدام العنف ضد الخصوم.
فالإخوان ليست مختصة بالدعوة إلى الله بالمفهوم الدعوي البعيد كل البعد عن ممارسة العنف، ولا يمكن وصفها بالجماعة السياسية، لأنها انحازت إلى ممارسة العنف على مستويات التحريض والممارسة معًا؛ فكل تنظيمات العنف والتطرف على مدار أكثر من 70 عامًا خرجت من رحم التنظيم أو رضعت من ثدييه، فمن تحت معطف التنظيم مارست الجماعة كل أشكال العنف.
مراوغة الإخوان وكذب قادة التنظيم في ادعاء العمل السياسي، لم يكن جديدًا عليهم لكنهم ورثوا ذلك عن مؤسس التنظيم، الذي فاجأ أعضاء الجماعة بعد 10 سنوات من النشأة بقراره ممارسة العمل السياسي، بل وممارسة العنف! فتم إنشاء الجناح العسكري للجماعة في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي وأوائل الأربعينيات، رغم أنه لم يُمارس السياسة من قبل لكنه وضع أنصاره أمام اختيار لم يُشاركوا فيها.
لعلي تذكرت هذه الواقعة وأنا أشاهد إحدى مراوغات قادة الإخوان في العصر الحديث، حلمي الجزار، الذي عرّفه مقدم البرنامج الذي استضافه على إحدى منصات الإخوان الإعلامية بمسؤول المكتب السياسي للإخوان، قائلاً عن الانقسام الحادث داخل التنظيم إنه مجرد خلاف إداري، حدث في الماضي وينحسر حاليًا وسوف ينتهي في المستقبل!
ما قاله الجزار صحيح من الناحية الشكلية لكنه مراوغة تنطلي على كذب بواح، هدفه تقليل حجم الخلاف والانهيارات التي تعرض لها التنظيم على خلفية الصراع الممتد منذ سنوات، خاصة أن كل جبهة من الجبهتين المتصارعتين داخل التنظيم تتهم الجبهة المقابلة باتهامات مخلة بالشرف، من عينة السرقات المالية وطعن "الدعوة" في ظهرها، والعمل لصالح أجهزة استخبارات أجنبية.
وصف الجزار ما حدث داخل التنظيم بأنه خلاف إداري وليس فكريا، والحقيقة أن ما حدث ويحدث داخل التنظيم هو انعكاس لحالة الترهل التي يمر بها، فهو لم يعد صالحًا حتى من داخل نفسه، كفر النّاس بالتنظيم وكفر أعضاء التنظيم بلوائح الجماعة وقوانينها وربما باستبداد قياداته؛ غالبًا هذه الظروف لم تكن جديدة على التنظيم لكنها طالت هذه المرة القيادات، فبات خلافهم بهذه الصورة الكاشفة.
فساد التنظيم من الداخل ورداءة الفكرة وراء هذه الاختلافات، فهو لم يكن مجرد صراع تنظيمي على المناصب لكنه يُعبر عن حقيقة التنظيم والفكرة معًا؛ فما يحدث داخل التنظيم هو انعكاس لما وصلت إليه الفكرة التي تعرضت للشيخوخة والمرض وما عادت قادرة على البقاء والحياة، فهي أشبه بالخلية المسرطنة التي يجب التخلص منها حتى يعيش المجتمع.
إن الحديث عن إصلاحها سوف يؤدي إلى زيادة المرض والمعاناة، فمن ذا الذي يربط حياته بحياة خلية مسرطنة إلا إذا كان يطلب الحياة من رحم الموت.
رهان الإخوان المسلمين على أن يعودوا إلى المشهد السياسي مع قرب الاستحقاق الانتخابي الأهم، الانتخابات الرئاسية، خاطئ؛ فأزمة الجماعة ليست سياسية لكنها فكرية، هذا ما لم يُدركه الجزار ولن يُدركه، بحكم انتمائه للتنظيم والفكرة، فغالبًا المريض تكون لديه حالة من الرفض وعدم الإيمان بالمرض، خاصة إذا كان هذا المرض يؤثر على بقائه، وبالتالي سوف يظل الإخوان يُنكرون الانهيار والوفاة التي يمر بها التنظيم حتى ينتهي تمامًا. إنها حالة إنكار مفهومة ولكنها غير متفهمة.
من مراوغات مسؤول المكتب السياسي لإحدى جبهات الإخوان المتصارعة ادعاؤه بمراجعة التنظيم لأفكاره! لكنه عاد ليقول إن هذه المراجعة ستأخذ وقتًا طويلًا، فهو يُدرك أنّ أسئلة ما سوف تنحسر في هذه المساحة وبالتالي لن يجد لها إجابة، ولذلك اضطر لتسويف الإعلان عن نتائج المراجعة المزيفة.
العجيب أن الجزار طالب على خلفية مراجعة جبهة إخوان لندن، ما سماه المراجعة الشاملة لخصومه، قائلًا: لا بد أن يراجع الآخرون مواقفهم من التنظيم! هنا يقصد أن تُراجع السلطة السياسية وأن يراجع المصريون مواقفهم من الإخوان، والسؤال: على أي صيغة يمكن أن يسامح المصريون من انحازوا وما زالوا للعنف أو أن يسمحوا لهم بالعودة إلى المشهد السياسي؟ خطر الإخوان ليس في وجود التنظيم وإنما في أفكاره التي تمثل خنجرًا مسمومًا ضد الأوطان والدين معًا.
لن يحقق الإخوان أي انتصار سياسي الآن أو لاحقًا، ولن يعودوا للمشهد السياسي من جديد مهما كانت الأسباب، ومهما تكاتف التنظيم المنقسم على نفسه والمتشظي على حاله. المكسب الذي يمكن أن يحققه التنظيم هو الصيد في الماء العكر أو تعكير صفو الماء للاصطياد، لكن أن يقبلهم النّاس مرة أخرى أو يسمحوا لهم بالبقاء فهذا لن يكون، فأزمة الإخوان فكرية بامتياز والخلاف التنظيمي أو الإداري هو انعكاس لفساد الفكرة المؤسسة للتنظيم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة