الأديب المصري نعيم صبري لـ"العين الإخبارية": "صافيني مرة" مرثية جيل
الروائي المصري نعيم صبري يتحدث خلال حواره مع "العين الإخبارية" عن عالم روايته "صافيني مرة" ورحلته الطويلة مع السرد والكتابة.
"أكتب عن براءة الفنان.. عن طفولة الإنسان.. أكتب للمُضيَّعين الحائرين.. التائهين عن ذواتهم.. للشاعرين بالعبث.. للمُرهقين بالعبث.. للمُرهقين بالسأم.. لمن هرِم.. ومن أضاع في دوامة الحياة يقينه ودهشته"..
بهذه الكلمات كشف الأديب المصري نعيم صبري هدف الكتابة التي يُحبها، والتي جعلها مدخلا لأولى تجاربه السردية في كتابه "يوميات طفل قديم"، ذلك الكتاب الأول الذي كان جسراً بين أعماله الشعرية وأعماله الروائية، ويعتبر بوابته الأولى للدخول إلى عالم السرد بعد الشعر.
في ضيافة الكاتب الروائي نعيم صبري، أدارت "العين الإخبارية" حوارا معه عن عالم روايته الأخيرة "صافيني مرة"، الصادرة عن دار "الشروق" المصرية، والتي وصفها بـ"مرثية جيل".
تُعد الرواية العمل الـ13 بين كتاباته، بالإضافة إلى سيرة الطفولة ومسرحيتين شعريتين و3 دواوين.
وعلى هامش الحوار تحدث صاحب "صافيني مرة" عن موسيقى موزارت وشوبان التي يذكرها ضمن قائمة موسيقاه المُفضلة ويحكي عنها بشغف بالغ ويعتبرها جانبا أصيلا من يومياته، خاصة أن الموسيقى واحدة من الروافد الرئيسية لقراءة روايته الأحدث.. وإلى نص الحوار.
لماذا وقع اختيارك على أغنية "صافيني مرة" لتُتوِّج بها عالم روايتك؟
الرواية هي مرثية جيل أطلق عليه "جيل ثورة 23 يوليو/تموز"، وهو الجيل الذي ارتبط بها بشكل معنوي وعاطفي كبيرين، باعتبارها تُمثل آمال تاريخ مصر كله، بداية من اتفاقية الجلاء التي كانت محور الكفاح المصري خلال 70 عاما، تبدأ من أحمد عرابي مروراً بثورة 1919 ومصطفى النحاس، فهذا الجيل عاش انتصارات الثورة وعظمتها ثم عانى من ويلات النكسة.
هذا الجيل، الذي تُسلط الرواية الضوء على ثنائية الانتصار والهزيمة في تكوينه، تزامن معه صعود مطرب جديد آنذاك اسمه عبدالحليم حافظ، وكانت أغنيته "صافيني مرة" من أوائل أغانيه التي ارتبط بها اسمه وأحبها الناس، وعنوان الأغنية يعكس كذلك مأساة هذا الجيل الذي كان يبحث عن أن تصافيه الدنيا، ولكن جاءت النكسة لتُشكل ألما شديدا لا يمكن وصفه للجيل الجديد مهما قرأ من كتب التاريخ، وكتابتي لتلك الرواية هي محاولة لتقريب مشاعر هذا الجيل للقارئ الذي لم يعش تلك الأجواء.
كتبت "المهرج" عن المستقبل القريب ثم عُدت بعدها لذاكرة جيل ثورة 1952.. ما الذي استدعى لديك تلك النوستالجيا؟
الإنتاج الفني بالنسبة للفنان لا يكون مُخططاً بشكل صارم ولا مُبرمجا، بمعنى؛ أن الموضوع الذي ينفعل به الأديب في وقت يكون نتيجة للمثيرات وذكريات ذهنه، هذا ما يحدد موضوع العمل، لا يوجد خطة شاملة عما سيكتبه مُسبقا، قد يكون المُحرك ذكريات رؤيته لعصر ما.. "صافيني مرة" تدور حول جيل تعلق بالثورة، ثم جاءت الهزيمة قاصمة له، وتكاد تكون أنهت حياته، وإن لم تُنهِ حياته ماديا فقد أنهتها معنويا، لذلك أتت تلك الرواية كرغبة في رثاء هذا الجيل، لست مع الفصل العقدي للأجيال إلى ستينيات وخمسينيات وما إلى ذلك، لأن هذا تقسيم ساذج بعض الشيء، ولكنه جيل صعد مع الخمسينيات منذ جلاء الإنجليز، مرورا بالانتصار المعنوي في 1956، والوحدة مع مصر وسوريا، وأشعار صلاح جاهين، ثم الهزيمة.
فتحت الباب لبوح البطل نبيل وخلقت توازيا سرديا بين ذاكرته الخاصة والعامة لمصر في تلك الفترة.. ما العامل المشترك بين الذاكرتين؟
الإنسان الحي مجموعة ذكريات ذاتية وموضوعية، والواقع الذاتي هو حياته الشخصية، أما الموضوعي هو الحياة الاجتماعية والسياسية من حوله.. البطل مهتم بالثقافة والفلسفة والأدب والمسرح، وإلى جانب واقعه الذاتي هناك جانب موضوعي منفعل به، وهي آمال وإحباطات المجتمع، أو ما يسمى بالوعي الجمعي، فهو مثلا يشارك في السياسة واعتصام كلية الهندسة، وقد عشت أنا شخصيا هذه الأحداث عندما كنت طالبا في كلية الهندسة، واخترت أن يكون البطل في كلية الهندسة لأستفيد من التفاصيل التي عشتها وانفعلت بها شخصيا، وهي جزء مهم ليس فقط في تاريخ الجامعات وإنما في تاريخ مصر كله.
الرواية بها سرد لكثير من علامات الفن والثقافة والسياسة خلال فترة الستينيات.. حدثنا عن اقترابك من هذا الثراء البحثي؟
العمل الروائي عمل بحثي، عند الاشتغال على رواية بشكل جاد وصادق، فإن جانبا كبيرا من العمل يعتمد على جمع معلومات عن الأشخاص والعصر وفنونه وقضاياه، ففي الرواية مثلا مرور على زيارة سارتر ومقتل كينيدي والبيانات العسكرية لحرب 1973 حتى تكون هناك مصداقية للعمل، بما في ذلك البحث الفني، فالعمل الأدبي يجب أن يكون صحيحا تاريخيا، فمن يقرأ ثلاثية نجيب محفوظ مثلا يفهم تاريخ مصر من الحرب العالمية الأولى حتى الحرب العالمية الثانية، مرورا بثورة 1919، وزعماء الوفد وأحزاب السرايا، رغم أنه عمل أدبي وتصنيفها الفني أنها رواية أجيال.
أما الجانب الموضوعي والتوثيقي فله فائدة مهمة، وقد يلجأ لها المؤرخون، وهذا ما حدث بعد صدور روايتي "شبرا"، التي تعرفت بسببها مثلا على الدكتور محمد عفيفي أستاذ التاريخ، الذي تواصل معي بعد قراءته لروايتي تلك، وهو يتبنى وجهة نظر أن الأعمال الأدبية والفنية تعتبر من مصادر التاريخ جنبا إلى جنب مع الوثيقة، وهذا ما يختلف فيه مؤرخون آخرون ضمن مدرسة تاريخية تعتمد فقط على الوثيقة، ولا تعتمد الفنون كمصدر للتأريخ.
كيف عالجت التماس مع الحدث التاريخي في الرواية حتى لا يطغى الحدث على الخيال الأدبي أو العكس؟
الكياسة الفنية هي التي تحكم ذلك، بمعنى أن يزن الكاتب "الطبخة" كما يقولون، فلا يستهويه مثلا كم المعلومات التي جمعها ليستعرضها كما هي في الرواية، فأنا مثلا جمعت معلومات كثيرة جدا خلال إعدادي لـ"صافيني مرة"، لكن الرواية ليست استعراضا للمادة البحثية، ولكنه عمل فني في المقام الأول.
البطل ظل يبحث لنفسه عن بطولة وفي نهاية الرواية وصل لحلمه ولكنه لم يصل للرضا.. ماذا أردت أن تقول من خلال هذه النهاية المرتبطة بخشبة المسرح؟
الإنسان وجدان يرتبط بما حوله، ومع كل التآلف المصاحب لثورة يوليو/تموز، وأغاني عبدالحليم وصلاح جاهين والموجي وبليغ وكمال الطويل، كل ذلك الزهو المواكب لأحداث كبرى كالجلاء وتأميم القناة، مرورا بحركات التحرر الأفريقية والعربية، ثم النكسة، نجد أن هذا الجيل كُسِر، وحجم الحزن الذي عاشه لا يمكن تصوره.. البطل هنا كان رمزا لكل ذلك، فانعكس على تقدمه الدراسي، وفي النهاية انعكس على مدى رضاه عن حلمه، فهو رمز لجيل تحطم، والمسرح رمز للأمل الشخصي والتحقق، للتناظر بين الذات والموضوع، الفرد والمجتمع.
حضور الفانتازيا في أعمالك محدود مقارنة بالتناول الواقعي.. هل هناك سبب لذلك؟
الفانتازيا في أعمالي استثناء وليست قاعدة، ففي "أمواج الخريف" مثلا ستجدين أنه عمل ذاتي عن منتصف العمر، وفي رواية "الابنة فاتن" سنجد التمزق بين طبقتين، و"الأستاذ تحتمس الثالث" كانت عن الهُوة بين الطاقة والقدرة، بين الإمكانيات الحقيقية والمُتخيلة.
البطل في الرواية كانت أحلامه تناطح الملك تحتمس أكثر ملوك مصر تحققا وإنجازا، أما في رواية "شبرا" فقد تناولت مصر في منتصف القرن الـ20، ودعاني لكتابتها ما تعرضت له من تشوهات بعد سلسلة العمليات الإرهابية التي عرفتها مصر في نهاية فترة الستينيات، وما عانى منه المجتمع من تعصب وإرهاب، أزعجني ما آلت إليه مصر ففكرت في مشروع "شبرا" كمنطقة مثالية للتعايش بين الأديان والجنسيات.
وكنت كتبت من قبل أن "شبرا" تعود لكلمة مصرية قديمة قبطية تعني العزبة أو الحديقة "جيبروا"، ما يرمز للتعايش، وبعدها كتبت روايتي "الحب السابع" عما حدث في شبرا من إفساد.
هل طغت الرواية على مشروعك المسرحي والشعري؟
لم أتفرغ للشعر كي أكون شاعرا، لم تكن لدي جرأة دخول عالم الرواية، فقررت ممارسة الكتابة السردية من خلال "يوميات طفل قديم"، والآن أكتب قصائد من وقت لآخر، وأحيانا أستخدمها في رواياتي، فمثلا استخدمت قصيدة في مطلع رواية "المهرج"، وقصيدة بعنوان "المتسول" وضعتها في مقدمة رواية "الحي السابع"، ومع ذلك لا أعتبر نفسي شاعرا، فلم أُخلِص للشعر ولم أُسخِّر له حياتي، بقدر ما وهبت حياتي للرواية.
aXA6IDE4LjIyNi45My4yMiA= جزيرة ام اند امز